لا تخفى دلالة وجود الفندق أو المقهى أو المطعم في الفن التشكيلي. فهذا النوع من الأمكنة يتميز بكونه معبّراً، لا مستقراً لأي كان أو لأي زبون. أنت لا تقيم هنا حتى ولو أتيت في ساعة معينة من كل يوم. والفندق ليس دارك حتى ولو أقمت في غرفة فيه لفترة غير محدودة من الزمن. طبعاً نعرف ان كُتّاباً مبدعين مثل جان جينيه وألبير قصري، خرقوا القاعدة، إذ أقام جينيه في فندق عادي معظم سني حياته وحتى رحيله، بينما الكاتب بالفرنسية من اصل مصري ألبير قصري لا يزال يقيم في غرفة في الفندق نفسه، منذ وصل فرنسا أواسط سنوات الأربعين. غير ان من الممكن القول ان خرق هؤلاء القاعدة ان الفندق مكان موقت، إنما يعتبر الشذوذ الذي يثبت القاعدة. ذلك أن إقامة هؤلاء في الفندق كانت، بالتحديد، لكون الفندق مكان عبور موقتاً ما يشعر الواحد منهم انما هو عابر في هذا الكون، على عكس البيت الذي يشعر بالاستمرارية. من هنا لم يكن غريباً على فنان من طينة الأميركي ادوارد هوبر، ان يجعل موضوعة الفندق، وبالتالي المقهى والمطعم، والقطار ومحطات البنزين وصولاً الى صالة العرض السينمائي اماكن مفضلة للوحاته، هو الذي جعل العدد الأكبر من هذه اللوحات تعبيراً عن عزلة الإنسان في المجتمع الحديث، كما عن صعوبة التواصل بين البشر. ولئن كان هوبر قد أوصل هذه المعاني الى ذروتها في لوحته الأشهر"صقور الليل"1942، حيث نشاهد من الخارج ذلك المنظر الذي بات يعتبر الأكثر دلالة في تاريخ الإبداع الأميركي في القرن العشرين: شخصيات عدة داخل مقهى ? أو مطعم ? ليلي جالسون معاً، لكن من الواضح ان كل واحد منهم يعيش عزلته وتحديداً لا تواصله مع الآخرين. هذه العزلة هي ? في الأحوال كافة ? الموضوع الأساس الذي هيمن على العدد الأكبر من لوحات هوبر. حتى وإن كنا نشاهد في بعض هذه اللوحات شخصيات تنظر الى شخصيات أخرى، فإن النظرة تظل لاتبادلية، وبالتالي تكثف من شعور العزلة، كما الحال مثلاً في لوحة"الحافلة ذات المقاعد"التي رسمها هوبر سنة 1965. وهو الموضوع نفسه الذي عبّر عنه هوبر، على أي حال، في لوحاته"الفندقية"، أي التي تدور مشاهدها في غرف الفنادق أو بهوها، أو على شرفاتها. ولعل الأشهر بين هذه اللوحات تلك المسماة"بهو الفندق"والتي رسمها هوبر سنة 1943 وهي الآن معلقة في متحف انديانابوليس. هذه اللوحة التي يزيد عرضها قليلاً عن 103 سنتم، وارتفاعها نحو 82 سنتم، هي واحدة من اللوحات التي ما إن يلمحها المرء حتى يدرك انها من اعمال هوبر، تشي بهذا ألوانها وخطوطها، والديكور في شكل إجمالي، ولكن تشي به ايضاً الشخصيات. هذه الشخصيات التي نلاحظ مرة اخرى كيف ان هوبر يختارها من الطبقة الوسطى، صاحبة الحلم الأميركي بامتياز، ليجعل لها في جلستها والعلاقة المشهدية بينها،"ميزانسين"خاصاً من الصعب افتراض وجوده لدى غيره من الفنانين. في نهاية الأمر يبدو المشهد من هذا النوع لدى إدوارد هوبر سينمائياً بامتياز. وهذا ما عبّر عنه الناقد بريان اودرتي الذي يعتبر من افضل دارسي فن إدوارد هوبر حين يقول ان اللوحة لدى هوبر"تبدو احياناً، للوهلة الأولى وكأنها تقترح وجود حركة ما في المشهد أو تبادلاً معيناً، لكن تأملاً فيها يكشف ان الرسام ثبّت عناصر المشهد ? أي عناصر اللوحة بالتالي ? في شكل يبدو هذا المشهد وكأنه لقطة سينمائية كانت في الأصل متحركة، لكن يداً ما ثبتتها على اللوحة"، في شكل يوحي بأن ثمة حركة من قبل وحركة من بعد. وما الجمود الحالي سوى لحظة عابرة قد لا تكون حقيقية. ينطبق هذا القول انطباقاً تاماً على اللوحة التي نتحدث عنها هنا. حيث لدينا أساساً ثلاث شخصيات تشغل الديكور موزعة في بهو الفندق بحركة هندسية تتناسب تماماً مع حركة الخطوط: فالسيدة الجالسة تقرأ الى يسار اللوحة تبدو متلائمة هندسياً مع الكنبتين المتجاورتين اللتين تشغل هي إحداهما. إنها ثابتة في قراءتها، لكن ثمة ما يوحي بالحركة المتواصلة، من عقد الساقين، الى الإمساك بالصفحات. إن ما هو مقترح هنا هو أن هذه السيدة لن تلبث بعد ثوان أن تقلب صفحة جديدة من الكتاب، تزامناً مع تبديل عقد ساقيها. من هنا يبدو جمودها خادعاً. في المقابل يبدو الرجل الكهل بوقفته والمعطف الذي يحمله على ذراعه اليمنى، وكأنه دخل لتوّه من الباب الذي خلفه وهو في سبيله الى أن يكمل مساره. السيدة الجالسة قربه تنظر إليه. إنها تبدو في رفقته وكأنها تحادثه، لكن نظرته المبتعدة عنها ووقفته الموقتة قد تشيان بأن نظرتها اليه إنما هي محاولة تواصل لا استجابة تقابلها. وهي في هذا تبدو شبيهة بنظرة تلقيها راكبة في لوحة"الحافلة ذات المقاعد"على راكبة أخرى تبدو غارقة في القراءة، كما بنظرة يلقيها النادل في"صقور الليل"على الزبون الصامت في تأمله المبتعد. ما هذه النظرات، كما يمكننا أن نخمن، سوى محاولات يائسة!! للتواصل... وهي بائسة، كما نفترض، لأنها تبقى من دون استجابة تحديداً. غير أن كل هذه الاقتراحات، تبقى افتراضية. ذلك أن من الواضح أن الالتباس الذي يطالع المرء في تأمله للوحة ولغيرها من لوحات هوبر المتشابهة، إنما هو التباس مقصود اعتدنا ان يطالعنا مثله في لوحات هوبر هذه. بيد أن الالتباس هنا سرعان ما يبدو متخذاً سمات مختلفة بعض الشيء، حيث ان تركيز هوبر في هذه اللوحة، يتجه صوب إقامة التعارض بين الصبية الشقراء التي تبدو غارقة في القراءة ومع هذا توحي جلستها ولون شعرها والنور الغامر ساقها، بقدر كبير من توتر متضاد مع جمودية المشهد ككل، بينما في المقابل يبدو الكهل والكهلة، لدى تأمل أكثر تعمقاً انهما إنما دخلا معاً أو هما على وشك الخروج معاً - ما يجعل إيحاء الحركة من نصيبهما على الضد من جمودية جلسة القارئة -، ومع هذا ثمة ما يمنعنا من الاستغراق في تأويل من هذا النوع وهو إحساسنا أن شحوب لون الكهلين وافتراق نظرتيهما، إنما يجعلان منهما أشبه بموديلات خشبية من النوع الذي يضعه الخياطون في حوانيتهم بحسب ملاحظة دوّنها رولف رينير في كتاب له عن هوبر. إذاً ما لدينا هنا، في الحقيقة، إنما هو تكوين جامد لشخصيتين تبدوان متحركتين، في مقابل تكوين حيوي لشخصية تبدو جامدة. وثمة الكثير مما يفترض أن هذا التعارض التناقضي، إنما جاء مقصوداً من جانب الرسام، الذي كثيراً ما ملأ لوحاته بهذا النوع من التعارض، الذي لم يفته أن يربطه - فلسفياً - بموقع إنسان العصر من الديناميات أو اللاديناميات التي تحيط به في كل لحظة من لحظات وجوده وفي كل مشهد من مشاهد حياته اليومية. وإذا كان ادوارد هوبر قد اختار الفندق أو المقهى أو المطعم أو عربات القطار ديكوراً لمثل هذه المشاهد، فما هذا إلا لأنه يعتبر في الأصل أن خير مكان يعبر فيه عن الجمود والانفصام بين الناس إنما هو المكان الذي يفترض به أن يكون مكان الحركة الدينامية الأساسي. من هنا اعتبر إدوارد هوبر 1882 - 1967 دائماً وعن حق الفنان الأميركي الذي عبر أكثر من أي فنان مواطن له عن تناقضات العصور الحديثة وعن مآل ذلك الحلم الأميركي الذي كان هدفه الأساس الجمع بين البشر لتحفيز الجميع على خوض مغامرة النجاح والعيش الجماعيين، فإذا بكل واحد من هؤلاء البشر يصبح جزيرة معزولة. ولد هوبر في الولاياتالمتحدة ومات فيها، لكنه أمضى سنوات عدة من حياته في أوروبا، وفي فرنسا خصوصاً. ومن الواضح ان تكوينه الأميركي النيويوركي بخاصة، سيبدو لديه متعارضاً مع ثقافة اكتسبها في أوروبا، وكانت هي ما أضفى على أفكاره وفنه ذلك البعد التساؤلي الوجودي الذي نادراً ما كان حاضراً في الفن التشكيلي الأميركي زمن هوبر، أي خلال النصف الأول من القرن العشرين... على الأقل.