"في أعمال ادوارد هوبر، تعتبر النافذة كعين، كفراغ، كحافة، كصمت، كمتاهة، وكمشهد طبيعي قاسماً مشتركاً لعملية التبادل الإيحائية بين المتابَع والمتابِع، وتعتبر أيضاً شاهداً، اعتقد انه بالكاد بدأ يُدرك .... وبدلاً من هذا، أرى أن هوبر قد حقق حيادية جعلت رسومه قادرة على الوصول الى عدد كبير من القراء الراصدين لما في اللوحات، ولكن تبعاً لإمكانات هؤلاء الراصدين". هذا ما كتبه، بلغته الملتبسة بعض الشيء، الناقد الأميركي بريان اودوهرتي، أواخر سنوات الأربعين من القرن العشرين، حول بعض أهم سمات فن مواطنه ادوارد هوبر. طبعاً لم يكن أودوهرتي أول من رصد أهمية وجود النافذة في لوحات هوبر، خلال تلك المرحلة وبعدها، لكنه كان من قلة عرفت كيف ترصد ديمومة ذلك الوجود، وعلاقة النافذة بازدواجية الطبيعة/ الحضارة، في تلك اللوحات. ذلك أن أهم ما لفت أودوهرتي النظر اليه، في هذا السياق, هو أن النافذة - بكل أشكالها كما سنرى - لعبت دور الفصل/ الوصل، بين الطبيعة والصناعة، بين ما هو عفوي تلقائي يعيش حياته الخاصة منذ أقدم الأزمان - المشهد العام كما هو في الطبيعة - وبين ما صنعه الإنسان، بناءً وآلةً وديكوراً وثقافة وما الى ذلك. واذا كان باحثون كثر قد ساروا لاحقاً على منوال أودوهرتي في تحليله هذا، فإن عدداً منهم اختار لوحتين محددتين لهوبر، رسمتا خلال عامين متتاليين 1938 وپ1939 للتعبير عن هذا. واللوحتان"القمرة سي. العربة 193"وپ"سينما نيويورك". في اللوحة الثانية ليس ثمة نافذة بالمعنى المحدد الحرفي للكلمة، بل هناك شاشة سينمائية تعرض فيلماً داخل صالة عرض في نيويورك... لكن هذه الشاشة تلعب تحديداً دور النافذة. فإذا كانت وظيفة النافذة في شكل عام هي أن نطل منها من الداخل الى الخارج وأحياناً العكس، لكن هذا ليس موضوع هذا التحليل هنا، وإن كان هذا الدور المعاكس قد لعب كثيراً في لوحات أخرى لهوبر، من أشهرها طبعاً لوحة"نايتهاوكز"1942، التي ربما تكون مرجعية في مجال كونها الأشهر حتى بين كل اللوحات الأميركية في القرن العشرين، فإن شاشة السينما تلعب هذا الدور تماماً، بل من اللافت هنا أن المشهد المرسوم على الشاشة انما هو منظر طبيعي يرى الناقد الألماني رولف رينر أنه يمثل جبال الألب في لقطة غير درامية على الإطلاق. شاشة السينما في هذه اللوحة تشتغل تماماً مثل نافذة لوحة"القمرة سي. العربة 193"، من حيث أنها تشكل الحدود الشفافة بين اصطناعية الداخل، وعفوية الخارج. إذاً، ما لدينا في"القمرة سي..."مشهد داخلي شديد الأناقة والانتظام، مناخه العام - كما في العدد الأكبر من لوحات هوبر - هو مناخ الوحدة. والوحدة هي هنا وحدة هذه المرأة التي تبدو راكبة وحيدة في قطار يظهر مثل صالون فسيح هادئ اللون - فستقي ميال الى الأزرق بعض الشيء -. والمرأة منصرفة كلياً الى القراءة - علماً أن القراءة هي دائماً في لوحات هوبر فعل انعزال كلي عن العالم وعن الآخر. وهو أيضاً هنا فعل مرتبط بالحضارة والثقافة، ما يتلاءم تماماً مع انتماء القطار نفسه، وأناقة السيدة الى الحضارة نفسها. أما المشهد الخارجي فيمثل نهراً وجسراً وغابة مظلمة وسماء عند الغسق، ما يحيل مباشرة الى الطبيعة وقد اخترقها الجسر كفعل صناعي، مقابل اصطناعية القطار وقد اخترقها جسد المرأة كفعل طبيعي. وهذا كله يخلق في الواقع تلك الثنائية التي كثيراً ما استهوت هوبر، بين ملكوت الطبيعة وملكوت الحضارة، غير أن ليس ثمة أي انفصال تام بينهما. هناك لعبة تبادلية تتم عبر النافذة هنا، وعبر وجود المصنّع في الطبيعة ووجود الطبيعي في المصنّع. وإن كان من الواضح تجذر كل من العنصرين الدخيلين في البيئة التي صار منتمياً اليها. وهذه الثنائية تشتغل هنا على مستويات أخرى أيضاً: إذ في حين يبدو المشهد الطبيعي، من خلال وجوده في النافذة، داخلاً وخارجاً في آن واحد، تبدو المرأة أيضاً موجودة في الداخل وفي الخارج... في الداخل بفعل حضورها الجسدي في المكان، وفي الخارج من خلال غيابها التام في ما تقرأ... لأن ما تقرأ لا ينتمي الى هذا الداخل بأي حال من الأحوال. والحال أن موقع المرأة وتعابير وجهها انما يحيطان المزاج العام للوحة بقدر كبير من الالتباس. ما يحيلنا هنا، من جديد الى لوحة"سينما نيويورك"حيث ثمة أيضاً امرأة واقفة كالمنعزلة مستندة الى الجدار، تبدو داخل المكان وخارجه في آن معاً. وهي بدورها غارقة في تفكير لا علاقة له بما يحصل من حولها، لا على الشاشة ولا في مقاعد المتفرجين. انها هنا ليس لتتفرج، بل لتؤدي عملاً محدداً: انها الموظفة التي تتولى اجلاس المشاهدين في مقاعدهم. وهي فعلت هذا، كما هو واضح مئات المرات من قبل، وستفعله مرات عدة أيضاً. من هنا لا يعود ثمة أية علاقة بينها وبين البيئة التي توجد فيها. والأمر نفسه ينطبق على الفيلم المعروض على الشاشة النافذة: هي شاهدته وتعيد مشاهدته مرات عدة، لذا نراها"خارجه"وپ"خارج"الصالة، تعيش عزلتها، تشغل فكرها في أمور لا علاقة لها بالمكان ولا بالزمان الحاضرين في اللوحة. وبالتالي تصبح المجابهة - السلبية - هنا، بين الطبيعة والثقافة، متجاورتين تبادليتين من جهة، وبين المرأة التي هي، في الوقت نفسه، الاثنان معاً: داخلهما وخارجهما. وكأننا هنا، بالطبع، نصف المرأة الأخرى: امرأة"القمرة سي. العربة 193"، التي بدورها، تبدو غير مهتمة، لا بالحضارة المصنعة التي تشكل البيئة المحيطة بها، ولا بالطبيعة الظاهرة من خلال النافذة. فهي، بدورها، وكما يبدو لنا اعتادت القيام بهذا السفر... اعتادت الجلسة نفسها، وپ"الغياب"نفسه عن المشهد. طبعاً، لا يمكن الانتقال من هذا للقول ان هذه اللوحات التي رسمها ادوارد هوبر وكلها تصف وحدة المرء وسط ديكور أو وسط طبيعة، أو وسط ديكور يمتزج بالطبيعة امتزاجاً تاماً، تحمل رسالة ما، حتى ولا في مجال التعبير عن أي استلاب أو غربة. فالمشهد وپ"رسالته"هما في نهاية الأمر محايدان. أو على الأقل، قبل أن يبدأ المشاهد بالتفاعل معهما... ذلك ان الفارق الأساس انما يصنعه هنا موقف المتفرج أو"وجهة نظره"... طالما ان الرسام - وهذا هو، في نهاية الأمر، جوهر ما يقوله الناقد أودوهرتي، في الفقرة التي افتتحنا بها هذا الكلام -، يترك للناظر الى اللوحة مهمة استخلاص الموقف، في نظرة سلبية أو ايجابية، في رؤية تنبعث من البعد الجمالي، أو البعد الفكري، بحسب ما يرتأيه هذا الناظر... بل بحسب ما تكون عليه حاله في لحظة المشاهدة. غير أن هذا لا يمنع من اشارة أساسية وهي أنه اذا كان ثمة من وصف للحال النفسية التي تعيشها كل المرأتين في لوحتها، فإن هذا الوصف سيتناول حال الاطمئنان التام. وهذا أيضاً يلتقي مع مجمل شخصيات لوحات ادوارد هوبر، التي، وسط بيئة معينة - قد تكون أحياناً توحي بشيء من العدائية -، تعيش حالاً من الاسترخاء التام. الطريف في أمر ادوارد هوبر 1882 - 1967 هو أنه كان ثمة دائماً اجماع على ضعفه التقني مقابل قوته التعبيرية، ولعل الناقد كليمان غرينبرغ كان الأكثر تعبيراً عن هذا حين قال:"ان هوبر هو، وبكل بساطة، رسام سيئ. ولكنه لو كان كرسام أفضل من هذا، لما كان على الأرجح سيبدو ذلك الفنان العظيم الذي كانه حقاً...". هوبر ولد في ضاحية نيويورك، المدينة ذاتها التي سيموت فيها بعد 85 سنة، منها ستون سنة أمضاها في الرسم والسفر والحضور القوي في الحياة الفنية، ما جعله من دون منازع أشهر الرسامين الأميركيين في طول القرن العشرين وعرضه، والأب الشرعي لنوع متميز من الواقعية الأميركية.