بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، وتراجع إن لم يكن اختفاء النموذج الاشتراكي في الاقتصاد وإدارة المجتمعات على أسس من التخطيط المركزي والملكية الجماعية، سادت النشوة والتفاخر بين اقتصاديين ومؤرخين ورجال سياسة وخصوصاً في الولاياتالمتحدة الأميركية وعدد من العواصم الغربية خصوصاً بريطانيا في عهد رئيسة وزرائها مارغريت تاتشر التي قضت أعوامها الاربعة عشر في الحكم تثبت وتعمق مفهوم الاقتصاد الحر وتفكك السياسات والبرامج الاجتماعية التي تبنتها حكومات عمالية سابقة وإصدار التشريعات لصالح الاقتصاديات وروؤس الاموال الضخمة، وكان هذا هو النهج نفسه الذي اتبعه صديقها الاثير رونالد ريغان خلال سنواته الثمانية في البيت الأبيض. وهكذا بعد انهيار النموذج الاشتراكي، بدا أن الرؤية والنموذج الرأسمالي الغربي اصبح واقعا عالميا وبالفعل اتجهت النظم في كل مكان الى تحرير وتخصيص اقتصادها والأخذ بقواعد وأسس اقتصاد السوق. غير أنه وبعد مرور عقد على ذلك، تحول هذا الشعور بالتباهي والثقة في الانتصار النهائي للاقتصاد الرأسمالي وفقا للنموذج الغربي، وشهد العالم بمختلف مجتمعاته الغنية والفقيرة، المتقدمة والنامية، أزمات مالية ونقدية واختلالات اجتماعية، وظهرت بشكل صارخ عدم المساواة في الدخول في الولاياتالمتحدة وأوروبا، وفي الدول الشيوعية السابقة والدول النامية، وفي شرق آسيا التي كان يظن في قدرتها على النمو القائم على التصدير تعرضت دولها لنكسة أودت بجهود عقود من التنمية. ولعل هذا يفسر أنه مع نهاية العقد ترأس اشتراكيون من حكومات 9 دول من دول الاتحاد الاوروبي الخمس عشرة وشاركوا ربما في ما عدا اسبانيا، في حكومات ائتلافية، وسقط زعيم ألماني ارتبط اسمه بتحقيق الوحدة الألمانية وهو هيلموت كول، بفعل معدلات البطالة التي بلغت أربعة ونصف مليون وكان أعلى معدل وصلت إليه بطالة في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى المستوى الأوروبي، بلغت البطالة 18 مليونًا وهو ما جعل رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي ليونيل جوسبان يقول إن الانصياع الكامل لقوى السوق سيكون فيه النهاية المحققة للحضارة في أوروبا. غير أن الاثار السلبية التي أفرزها النظام الرأسمالي الجديد لم تكن قاصرة فقط على المستوى الوطني وما أحدثه من فروق وتوترات داخل المجتمع الواحد، بل وكذلك على المستوى الكوني بما ظهر من فجوات ضخمة في مستويات الدخل القومي بين شعوب العالم، فقد بلغ ما يملكه 358 بليونيرًا، يتجاوز قيم الدخل القومي ل 45 في المئة من سكان العالم يقدرون ب 3 ملايين نسمة، ومثلما لاحظ رئيس البنك الدولي أن ثمة 1.3 بليون نسمة في العالم يعيشون بدولار واحد في اليوم، و3 بلايين ليس لديهم مياه نظيفة أو نظام صرف صحي، بليوني من دون كهرباء، وهو الوضع الذي جعله يحذر من أنه لا يمكن الحديث عن ترتيب البيت إذا كانت القرية كلها تحترق، وجعل شوارب رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يروج للعولمة الاقتصادية يحذر في أحد الاجتماعات للمنتدى من المغالاة في الهرولة نحو عولمة الاقتصاد وعدم تجاهل العواقب الاجتماعية بتطبيق اقتصاديات السوق. ومن المفارقات، التي تظهر عمق الآثار التي ترتبت على العولمة الاقتصادية، أن رجل أعمال مثل جورج سوروس، الذي حقق البلايين نتيجة إطلاق آليات السوق يقرر أمام اجتماعات البنك الدولي في أيلول سبتمبر 2000" أنه من مصلحتنا الذاتية المتنورة التأكد ان الخاسرين من هذا النظام العالمي، وهم الآن يعدون بالبلايين، يحصلون على فرصة للمشاركة، لماذا؟ لأنه من دون ذلك فإن غير المستفيدين سيسخرون قوتهم السياسية للسيطرة على النظام". هذا الواقع هو الذي دفع الكثيرين إلى وصف الرأسمالية الجديدة، وإطلاق آليات السوق من دون ضوابط او قيود تعبير الرأسمالية الطائشة Reckless Capitalism أو الرأسمالية المتوحشة وإدانتها بسبب عجزها عن تحقيق ما وعدت به من كفاءة أعظم ورفاهية اجتماعية. وهكذا ولدت هذه الآثار السلبية التي أتت بها الرأسمالية الجديدة والاختلالات الاجتماعية التي أحدثتها في بنية المجتمعات، ولدت إجماعا في كل مكان على ضرورة الاصلاح وإحداث التوازن في النظام المالي الوطني الدولي. غير أنه إذا كان هناك إجماع على ضرورة الاصلاح فإن الاختلاف نشأ حول وسائله بين المحافظين والليبرالين. فبالنسبة للمحافظين فإن المشكلة الرئيسية ليست في وجود قدر كبير من الليبرالية ولكن المشكلة في غياب الكثير منها، وبالنسبة لهم فإن الدولة مازالت تلعب دورا واسعا في السوق العالمي، في الوقت الذي لن يتحقق فيه حلم اقتصاد عالمي مزدهر الا بالإزالة الكاملة للحواجز امام حركة رأس المال والسلع والاستثمار، وهم يسلمون بأن هذه العملية سيصاحبها الالام، الا انه ليس هناك خيار الا الاستمرار فيها ودفعها الى الامام. أما الليبرالين فإن الحل على العكس يجب أن يقوده بالضرورة الى الدولة النشيطة، وعندهم فقد فقدت الدولة الإرادة أكثر مما فقدت القدرة لإدارة تداخل الاقتصاد الوطني مع الاقتصاد العالمي، ومن ثم فإن المزيد من القيود وخاصة على تدفق رؤوس الاموال سيكون لفائدة المجتمع، ويجادل الليبراليون أكثر من ذلك بأن الدولة تستطيع أن تعيد توزيع أنفاقها حتى يمكنها أن تمول بشكل كامل بل في توسع برامج دولة الرفاهية، وباختصار فعندهم أن الدولة تملك مجالا كبيرا للحركة والمناورة. بين هذين المنظورين نشات فكرة أو فلسفة البديل أو الطريق الثالث، وارتبطت هذه الفلسفة في صورتها الحديثة بشخصيات أميركية وأوربية مثل بيل كلينتون وتوني بلير وجوسبان وايرهارد شرودر ورؤساء وزراء ايطاليا والبرتغال. وبدأت مبادراتهم وحديثهم عن الطريق الثالث كأيديولوجية للمستقبل في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى، عام 1996، ثم في الندوة التي جمعتهم في نيويورك عام 1998، وفي أثناء انعقاد مؤتمر قمة الالفية الثالثة في نيويورك، نشر ثلاثة من رؤساء الوزراء الاوروبين هم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا، وويم كوك رئيس وزراء هولندا، وجون برسون رئيس وزراء السويد، إضافة الى جيرهارد شرودر مستشار ألمانيا، نشروا مقالا مشتركا أرادوا به أن يعيدوا تأكيد وتذكير بالوثيقة السياسية التي صدرت عن اجتماع عقدته في حزيران يونيو 2000 في برلين 14 دولة من أوروبا والأميركيتين وجنوب افريقيا ونيوزيلندا، هو البيان الذي جمع معا ساسة من يسار الوسط لصياغة ما أسموه"جدول أعمال تقدمي جديد"وبدأوا مقالهم بالتأكيد أنهم جميعا يتفهمون إمكانيات العولمة، ولكنهم أيضا ملزمون بعلاج المشكلات الواضحة التي جاءت في أعقابها، وأوضحوا أنه بالنسبة لهم ثمة ثلاث دعائم للتقدم العالمي: 1- فثمة حاجة لتوسيع قاعدة المستفيدين من الاقتصاد الجديد، واذا كان ذلك صحيا اقتصاديا فإنه مهم اقتصاديا كذلك، كما أنه يحتاج لحكومة نشطة لا لكي تقوم بعمل رجال الأعمال ولكن بدلا من ذلك تمكن المواطنين للدخول في سوق العمل وتطوير مهارتهم وإقامة المشروعات. 2- أن ثمة حاجة الى دعم المجتمع المدني فهو الضمان ضد الحكومات المتعجرفة وكذلك قوى السوق غير المنظمة، فالقيم الأساسية يجب أن تكون واضحة: مجتمعا مفتوحا يشمل كل قواه. 3- الالتزام بميثاق دولي جديد، ففي عالم يتزايد الاعتماد المتبادل فيه فإن أهداف الرفاهية وتقوية المجتمع المدني لا يمكن تحقيقها داخل الدولة القومية وحدها. ورغم المساهمات الفكرية التي ظهرت منذ السبعينات ودارت حول بديل ثالث بين الاشتراكية والرأسمالية، مثل مساهمات عالم الاقتصاد التشيكي أوتاسيك، والاشتراكيين الديموقراطيين السويديين الذين كانوا أكثر الجميع ميلا لاستخدام مصطلح الطريق الثالث بأحد معانيه في أواخر الثمانينات بوصفه برنامجا مهما للتحديث، وكذلك مساهمات عالم السياسة الأميركي سيمون مارثن، ليستر ثورو، على الرغم من هذه المساهمات، يرجع تبلور المفهوم الفكري لنظرية الطريق الثالث الى عالم الاجتماع الانجليزي أنطون غيدنز في كتابه الذي اصدره عام 1998 تحت عنوان" The Thirdway: The Renewal of Social Democracy"وهو العمل الذي حاول أن يقدم فيه الاساس النظري والفلسفي لمفهوم الطريق الثالث والاسهام في الحوار الدائر حول مستقبل السياسات الديموقراطية الاجتماعية، وهو الحوار الذي اصبح مطلوبا بعد تحلل ما كان سائدا في البلدان الصناعية حتى أواخر السبعينيات حول الرفاهية الاجتماعية ثم الاعلان عن الافلاس النهائى للماركسية، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي كانت وراء ذلك وأهم من ذلك ما يجب عمله لمواجهة هذه التغيرات. ويبلور غيدنز مفهومه للطريق الثالث باعتباره" الإطار المرجعى للتفكير وصياغة السياسات التي تهدف الى مواءمة الديموقراطية الاجتماعية في عالم يتعرض لتغيرات جذرية خلال العقدين أو الثلاث عقود الماضية، فهو إذن طريق ثالث بمعنى أنه محاولة لتجاوز كلا من الديموقراطية الاجتماعية الكلاسكية والليبرالية الجديدة" . غير ان محور ما يشغل غيدنز هو التوصل الى إجابة عما إذا كانت الديموقراطية الاجتماعية يمكن أن تظل حية ومؤثرة كفلسفة سياسية متميزة وعنده أنه إذا كان للديموقراطية الاجتماعية أن تظل حية ومؤثرة، وان تزدهر على الصعيدين الايديلوجى والعملى فإن عليها أن تراجع وجهات نظرها المسبقة بصورة أكثر تدقيقا وشمولا. على اية حال فقد تفاوتت ردود الفعل تجاه فلسفة الطريق الثالث تجاه ما ظهر من سلبيات الرأسمالية الجديدة، فحيث وجد فيها البعض" عودة للاشتراكية"واعتبر آخرون أنها تمثل محاولة جادة للتوفيق بين دواعى الكفاءة الاقتصادية وترشيد آليات السوق، وبين اعتبارات العدالة الاجتماعية وتوسيع قاعدة الرفاهية الاقتصادية، اعتبرها البعض الآخر تعبير عن أزمة في العالم الراسمالى الذي خضع لاكثر مما يجب لنفوذ" الأصولية الرأسمالية"وذهب البعض الى أنها لم تذهب ابعد من إصلاح دولة الرفاهية في الدول الصناعية المتقدمة، وأن هدفها الاساسى هو حماية وإنقاذ النظام الراسمالي - وخاصة في صيغته المعولمة، من ان يحطم نفسه بنفسه. * كاتب وسفير مصرى سابق.