شاعر فلسطيني - مصري، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية، اخترق سقف الفضاء الإبداعي بموهبة متوهجة، وطاقة محتدمة مستفزة، منذ أن كتب إثر موقف احتجاجي ساخن مطولته العامية اللازعة"قالوا لي بتحب مصر؟ قلت مش عارف"حيث جعل من أمه الأكاديمية المبدعة الرصينة رضوى عاشور، ومن أبيه الشاعر مريد البرغوثي أيقونة رمزية للوشائج الحميمة بين أرض الكنانة والوطن السليب، وكأنه جمع في أصلابه جينات هذا المزاج الخلاق ليثبت توالده الخصب، وتواصله القدري المحترم. غير أنه لم يلبث أن كتب بالدارجة الفلسطينية، ونشر بالفصحى البليغة ديوانه"مقام عراق"وفاجأنا أخيراً بقصيدته القصوى"في القدس". يعيد تشعير المدينة التي يراق عليها من الدم والحبر والدمع ما لم تعرفه مدينة أخرى على وجه الأرض، فيبتكر أشكالاً وإيقاعية وسردية وتمثيلية لتحويل واقعها الصلب الرجراج إلى نموذج حيّ للتكوين التخييلي المثير للدهشة والاستبصار. يسوق الشاعر مطلع قصيدته مقطعاً من ستة أبيات كلاسيكية، وكأنه يتلو القداس الأول في محراب المدينة، مستحضراً تراث الغزل العربي في عشق الديار والطواف بأركانها المضمخة بعطر الأحباب: "مررنا على دار الحبيب فردنا / عن الدار قانون الأعادي وسورها فقلت لنفسي ربما هي نعمة / فماذا ترى في القدس حين تزورها ترى كل ما لا تستطيع احتماله / إذا ما بدت من جانب الدرب دورها وما كل نفس حين تلقى حبيبها / تُسر ولا كل الغياب يضيرها فإن سرها قبل الفراق لقاؤه / فليس بمأمون عليها سرورها متى تبصر القدس العتيقة مرة / فسوف تراها العين حيث تديرها". ولست أدري لماذا رنّ في وجداني عند قراءة هذه الأبيات التي لا تحتاج إلى مقاربة تساعد المتلقي على تذوقها قول الشاعر القديم: "أهابك إجلالاً وما بك قدرة / عليّ ولكن ملء عين حبيبها". فمهابة الحب أو قداسة الامتلاء بعشق الأعزاء هي التي تصل سلالات القصائد بعضها ببعض في الذاكرة الشعرية، وتضمن لها نوعاً من التوالد الجمالي الممتع. لكن صدمة"قانون الأعادي وسورها"سرعان ما توقظ هذه الذاكرة العربية من سباتها الوسنان، لتواجه الوضع الجديد للمدينة العتيقة المختطفة، وحينئذ يبدأ الشاعر في تعزية نفسه وتكييفها مع واقع المنع والحرمان، فماذا سيرى في المدينة إذا ما دخلها غير ما لا طاقة له على تحمله من مظاهر الاحتلال. لكن الشكل العمودي يفرض على صاحبه في هذا المطلع أن يستصفي حكمة الموقف في كلمات مقطرة، يمكن أن يرددها الرواة. "وما كل نفس حين تلقى حبيبها / تُسر ولا كل الغياب يضيرها فإن سرها قبل الفراق لقاؤه / فليس بمأمون عليها سرورها". بيد أن وظيفة هذا القداس العمودي الأول لا تكمن فيه بذاته، بقدر ما تتجلى في ما يشعه من ابتهالات ضارعة تنكسر بعدها نبرة الخطاب إلى نسق تفعيلي مغاير، ومشاهد بصرية مختلفة، ونمط سردي حداثي يمسح المكان بمنظور القص وبصيرة الشعر ونوعية مغايرة من أوضاع الكلام وحالات التعبير. شذاذ الآفاق ما من شاعر مسكون بالوجع القومي إلا وقد انفطر قلبه للقدس، وتغنى بها أو انتحب عليها. وقد أشرفت على رسائل جامعية تناولت ما قيل في القدس في مناهج مختلفة تجاوزت مجلدات عدة، لكن أياً منها لم يقدم صورة مثل التي يرسمها تميم لمغتصبيها من الصهاينة في هذه الطريقة الفريدة: "في القدس بائع خضرة من جورجيا، برم بزوجته يفكر في قضاء إجازة أو في طلاء البيت. في القدس توراة وكهل جاء من منهاتن العليا يفقه فتية البولون في أحكامها. في القدس شرطي من الأحباش يغلق شارعاً في السوق رشاش على مستوطن لم يبلغ العشرين / قبعة تحيي حائط المبكى وسياح من الإفرنج شقر لا يرون القدس إطلاقاً تراهم يأخذون لبعضهم صوراً / مع امرأة تبيع الفجل في الساحات في القدس أسوار من الريحان / في القدس متراس من الإسمنت في القدس دب الجند منتعلين فوق الغيم. في القدس صلينا على الإسفلت / في القدس... من في القدس إلا أنت". نحن إزاء فنان يمسك بكاميرا مسحورة ليعرض حالات شذاذ الآفاق ويكشف بواطنهم، يقترب من مشهدهم وغيبهم الذي خلفوه وراءهم، من ألوانهم وأعمارهم، مختزلاً أحدهم في السأم، والآخر في الهوس، والثالث في فوبيا العنف، والرابع مجرد قبعة منكفئة على الحائط. ثم ينطلق بمرح في السوق ليرصد هؤلاء الشقر السذّج الذين لا هم لهم سوى التصوير مع بائعة فجل، لكنه سرعان ما يقلب الكاميرا ليحدق في عينيها، فتكشف له عن مفارقات قدسه المطرز بأسوار الريحان مع متاريس الإسمنت، والجند الذين انتهكوا حرمة السماء فانتعلوا الغيم. وتقترب الكاميرا أكثر فلا ترى في القدس أحداً سوى الشاعر الذي احتضنها بكلماته، في مشاهد تجمع بين التوثيق والتحديق، مشاهد تقوم بتشعير الأرصفة وتقزيم الأوصاف لتمسك بقلب المدينة المقدسة. متتالية الصور لأن القصيدة تقع في خمسة عشر مقطعاً ليس من الميسور متابعة حركتها الداخلية ولا شرح بنيتها الدرامية المركبة، بل يتعين اقتطاع بعض المشاهد اللافتة فيها وتأمل شعريتها الدافقة، من دون إغفال لمجمل النص وملامحه الكلية المشعة. فهو مثلاً يعمد إلى تجسيد روح القداسة في المدينة من دون أن يركن - مثل بقية الشعراء- الى ذاكرة التاريخ النبوي في الإسراء والمعراج، بل يرى قسمات هذه القداسة ويعاينها بصرياً في الواقع الذي ينتهكها كل لحظة: "في القدس يزداد الهلال تقوساً مثل الجنين حدباً على أشباهه فوق القباب تطورت ما بينهم عبر السنين علاقة الأب بالبنين". يعيد الشاعر الفاعلية المحفزة لرمزية الهلال على قباب المساجد ويغرسها في قلب الطبيعة السماوية المشعة بالتحنان في حركة الجنين المقوس، عاقداً تلك الصلة الأبوية الطريفة بين القمر الوليد وأهِلّة المساجد كما تبزغ في القبلة الأولى على وجه التحديد، لكنه لا يلبث أن يتدارك برشاقة إيحاء الأحادية الدينية فيقول على الفور: "في القدس أبنية حجارتها اقتباسات من الإنجيل والقرآن في القدس تعريف الجمال مثمن الأضلاع أزرق فوقه، يا دام عزك، قبة ذهبية تبدو برأيي مثل مرآة محدبة ترى وجه السماء ملخصاً فيها / تدللها وتدنيها. توزعها كأكياس المعونة في الحصار لمستحقيها إذا ما أمة من بعد خطبة جمعة مرت بأيديها وفي القدس السماء تفرقت في الناس تحمينا ونحميها ونحملها على أكتفانا حملاً/ إذا جارت على أثمارها الأزمان". تكمن شعرية هذه الأبيات في متتالية الصور المدهشة التي تنتقل من المادة إلى النور المنبث فيها أو الإيحاء البعيد، غير المتوقع منها. فحجارة الأبنية يمكن أن توصف بأشياء كثيرة، ليس منها أنها"اقتباسات"من النصوص المقدسة، والجمال يمكن أن يتم تعريفه بما لا حصر له من الكلمات، أما أن يحدد قطعاً بأنه شكل مثمن الأضلاع فوقه قبة ذهبية، فهو حصر لكل جمال العالم في قبة الصخرة بألوانها وأضلاعها، من متحدث يبدي ألفة شديدة لمخاطبه ويناديه بدوام العز في لفتة حميمة. أما المدهش فهو أن تصبح فيوض السماء وأنوارها المنعكسة على مرآة هذه القبة الفاتنة غذاء عادلاً لأرواح المؤمنين، مثل أكياس المعونة في الحصار. هذه القفزة بين أطراف الصورة المتباعدة بتلقائية تبدو ذروة تشعير الواقع المادي في لعبة التخييل والتصوير، تسمح بتمثيل المدد الروحي الذي تتلقاه الأمة يوم الجمعة من صلاة في الأقصى، حتى إذا حملت السماء على أكتفاهها وطارت بها لم يعد ذلك تشييعاً لجنازتها، بل أصبح طقس ارتماء في أحضانها وحماية لها في آن واحد، وتصبح العودة للأقمار التي يجور عليها التاريخ، وللقافية النونية في"الأزمان"المقابلة"للقرآن"في السطر الأول إكمالاً للمقطع وإشباعاً لإيقاعات التمثيل التصويري الممتد في المشهد كله. دولة الريح يستهل الشاعر كما لاحظنا معظم مقاطع القصيدة بعبارة"في القدس"فتقوم بدور ما يسمى في البلاغة"قافية الاستهلال"، لكن تكرارها المتتابع يخلق تياراً من الوجد بالمدينة، والوله بذاكرتها وطرقاتها، فيحدث ما أطلق عليه في البحث الأسلوبي بظاهرة"التدويم"وهي بالغة التأثير في المتلقي، يقول تميم: "في القدس يرتاح التناقض، والعجائب ليس ينكرها العبادُ كأنها قطع القماش، يقلبون قديمها وجديدها والمعجزات هناك تُلمس باليدين. في القدس لو صافحت شيخاً، أو لمست بناية لو جدت منقوشاً على كفيك نص قصيدة يا ابن الكرام، أو اثنين. في القدس، رغم تتابع النكبات ريح براءة في الجو، ريح طفولة فترى الحمام يطير، يعلن دولة في الريح بين رصاصتين". ثلاثة أقانيم يقدسها المبدع في هيكله، المدينة المعجزة، والقصيدة الشعرية، وحلم الدولة المستحيل، لكنه يلمسها بيديه، ويجدها منقوشة على كفيه، متحققة في رمز السلام الذي يصنع الحلم في قلب التناقض، ففي ملمس الحجر ينبثق ماء الشعر، ومن رفيف الحمائم المطوقة بالرصاص تتخلق كينونة الدولة. وإذا كان تميم البرغوثي بحساسيته الإبداعية الفائقة، وخبرته في السياسة ومعايشته منذ نعومة أظفاره لتفاصيل الوضع الفلسطيني قد تشرب روح الشعر ووعي الواقع، فإن اللافت في تجربته هو هذه القدرة على تجسيد البداهة وتشعير المادة، وتحويل النص إلى خطاب مفتوح يدخل فيه المتلقي ويتفاعل معه ليكتشف طبقات متعددة فيه، تصله بثقافة العصر بطريقة جمالية لا يمكن أن يخطئ في فهم مقصدها. وفي ختام هذه الملحمة الدرامية يرصد شاعرنا ألوان المدينة بحدقته ليرفض دمعة تترقرق في عينيه ويجلب مكانها ابتسامة رائعة وهو يقول: "لا تبك عينك أيها المنسيّ من متن الكتاب لا تبك عينك أيها العربي واعلم أنه في القدس من في القدس لكن / لا أرى في القدس إلا أنت". * ناقد وأكاديمي مصري.