القداسة التي تنبعث من قصيدة سميح القاسم تنبعث أيضاً من قصيدة محمود درويش لكن من زاوية مختلفة. القصيدة بعنوان "في القدس" وهي من مجموعة درويش "لا تعتذر عما فعلت". والقداسة هنا هي ما يحيط بالشاعر وبالقارئ معه منذ بدء الحركة في شوارع القدس: في القدس، أعني داخل السور القديم أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني. فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدس ... القدس إذاً إرث سماوي يتوزع مع الأنبياء في مدينة تعج بالمقدس. لكن الأنبياء الذين يأتون بالمقدس ويجعلهم "أقل إحباطاً وحزناً" يختلفون عن الشاعر بوصفه إنساناً مطارداً بالإحباط والحزن لما يحدث. يلاحظ هنا أن رحلة الشاعر ذات طابع حلمي رؤيوي ("أسير في نومي. أحملق في منامي") الأمر الذي يحمله عالياً كما لو أنه يطير ويتحول عن إنسانيته ("أصير غيري في التجلي") ثم يتساءل عن هويته في هذه التحولات ليصل مع اقتراب القصيدة من نهايتها إلى أنه: "أنا لا أنا في حضرة المعراج"). ويستدعي هذا شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتصل القصيدة منتهاها: لكني أفكر: وحده كان النبي محمد يتكلم العربية الفصحى. "وماذا بعد؟" ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟ قلت: قتلتني ... ونسيت، مثلك، أن أموت. يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه رمز العروبة المندثرة عن القدس ومن الدال أن الرمز العظيم تقابله جندية إسرائيلية. إنها طريقة درويش غير المباشرة بالقول إن هوية القدس تستلب ليس عربياً فقط وإنما إسلامياً أيضاً، فالذي يتحدث العربية وحده ليس الشاعر أو أي إنسان عادي وإنما هو رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام . ثم لنتأمل هذه النهاية السريالية لمقتل الشاعر، فهو مقتل تم لكنه لم يؤد إلى الموت وإن لم يعن هذا تميزاً للشاعر فالجندية أيضاً قتلت ولم تمت. فإلام يقودنا هذا؟ أليس إلى استمرار الصراع؟ ولعله الصراع بين قتلى بالمعنى الرمزي، بمعنى أن الصراع لم ولن ينته بمجرد قتل الأفراد، أو ربما بمعنى أنه تحول إلى صراع عبثي مثل صراع الرسومات الكرتونية. القصيدة الأخيرة في هذه الجولة هي قصيدة تميم البرغوثي التي وردت في أحد المواقع على الشبكة دون عنوان والتي أعدها ببساطة أهم النصوص التي وردت في هذه القراءة. يبدأ البرغوثي قصيدته بمطلع طللي فيه عبق تراثي واضح، ثم يبدأ جولته في المدينة مسجلاً مشاهداته وطارحاً أسئلته: مررنا على دار الحبيب فردناعن الدار قانون الأعادي وسورها فقلت لنفسي ربما هي نعمةفماذا ترى في القدس حين تزورها ترى كل ما لا تستطيع احتمالهإذا ما بدت من جانب الدرب دورها وما كل نفس حين تلقى حبيبهاتسر ولا كل الغياب يضيرها فإن سرها قبل الفراق لقاؤهفليس بمأمون عليها سرورها متى تبصر القدس العتيقة مرةفسوف تراها العين حيث تديرها بعد هذه النقلة التي تحمل الكثير من بلاغيات المطالع التقليدية في وصف العلاقة بين الشاعر ومدينته يهبط النص إلى نثرية واضحة حين يبدأ الشاعر وصف مشاهداته التي تضيف تفاصيل لقوله إن النفس "ترى كل ما لا تستطيع احتماله". من تلك المشاهدات، بل من المعالم الرئيسة التي يبرزها النص، تحول القدس إلى مجمع لأناس جاؤوا من كل مكان ليحلو محل أهلها الأصليين الذين هم أحق بها: في القدس بائع خضرة من جورجيا ... في القدس توراة وكهل جاء من منهاتن العليا ... في القدس شرطي من الأحباش يغلق شارعاً في السوق ... إلى نهاية قائمة تتضمن رشاشاً وقبعات وسياحاً في مشهد ينتهي بقول الشاعر مخاطباً نفسه ومبرزاً هويته: "في القدس صلينا على الأسفلت/ في القدس من في القدس إلا أنت". وتتكرر الإشارة نفسها لكن بتعبير آخر: "في القدس كل فتى سواك". لقد خلت القدس من أهلها وما جولة الشاعر إلا استكشاف ممض لذلك الغياب، مثلما أنه استكشاف ممض أيضاً لحضور من لم يكن ينبغي أن يحضروا. غير أن الغياب الواضح لا يحول دون قيام الشاعر أثناء تجواله في شوارع القدس باستعادة هويته بوصفه الابن العائد، كأنما ليس في المدينة فتى سواه. فهو يعرف مستمعيه – أو قراءه – بتفاصيل ستغيب هي الأخرى لولا رؤية الشاعر. هكذا تأتي صور مدهشة كهذه: في القدس يزداد الهلال تقوساً مثل الجنين حدباً على أشباهه فوق القباب تطورت ما بينهم عبر السنين علاقة الأب بالبنين في القدس أبنية حجارتها اقتباسات من الإنجيل والقرآن في القدس تعريف الجمال مثمن الأضلاع أزرق فوقه – يا دام عزك – قبة ذهبية تبدو برأيي مثل مرآة محدبة ترى وجه السماء ملخصاً فيها تدللها وتدنيها توزعها كأكياس المعونة في الحصار لمستحقيها إذا ما أمة من بعد خطبة جمعة مدت بأيديها ... كان يمكن أن أستمر في الاقتباس فقليل من القصيدة لا يستحق الاستعادة، كالقدس نفسها. كان يمكن أن أستعيد صورة الحمام وهو "يطير يعلن دولة في الريح بين رصاصتين"، أو أن أستعيد ختام قصيدته حين يغادر الشاعر مدينته في سيارة التاكسي ثم يلتفت دامعاً لتفاجئه، كما يقول، ابتسامته: لم أدر كيف تسللت في الدمع قالت لي وقد أمعنت ما أمعنت: "يا أيها الباكي وراء السور .. أحمق أنت أجننت .. لا تبك عينك أيها المنسي من متن الكتاب لا تبك عينك أيها العربي واعلم أنه في القدس من في القدس لكن لا أرى في القدس إلا أنت .. في قصيدة البرغوثي تمتزج المقاطع، بعضها يعلو كقباب القدس، والبعض يهبط إلى نثرية الشارع، لكن الغالب هو التعالي الشعري المدهش والذي يصلح ختاماً لهذه الجولة في حضرة القدس المتعدد على مفارق الثقافات.