لم يترك كافكا يوميات من سنة 1918. ترك يوميات من 1917 ومن 1919 لكن ليس 1918. ماذا كان يفعل تلك السنة حتى كفَّ عن تدوين يومياته؟ ولماذا تهمّنا الآن - نهاية صيف 2007 والعالم كالعادة يبرم في دوامة عنف - يوميات كافكا 1918؟ نشر ماكس برود يوميات صديقه كافكا سنة 1948. تغطي اليوميات حياة كافكا بين 1910 و1923، السنة التي سبقت موته. يوميات 1910 تعطينا كافكا شاباً ابن 27 سنة. يوميات 1917 تعطينا كافكا مكتمل النضوج، في الرابعة والثلاثين، مراقباً للخارج ومنغمساً في عالمه الخيالي حيث المنامات تتحول أدباً. المنام ليس خيالاً. هل هو خيال؟ ينبع الخيال من هذا العالم. ينبع من أعماق العالم، من كهوف النفس البشرية. ماذا تخبرنا قصص كافكا القصيرة؟"طبيب الريف"و"تقرير الى أكاديمية"و"فنان الجوع"قصص خيالية أم قصص عن عالمنا وعن حياتنا في هذا العالم؟ نختزل كافكا الى بعدٍ واحد اذا قرأنا قصصه كاستعارة سياسية او استعارة دينية او استعارة أخلاقية او... هكذا نشوّه كافكا. لم يكتب كافكا إلا استعارات لحياته في هذا العالم. هذه الجملة الأخيرة هي ايضاً تختزل كافكا. لماذا يصرّ القارئ على اختزال ما يقرأ؟ هذه طبيعة بشرية؟ كيف يتسع صدر القارئ للتعدد، للاحتمالات الكثيرة، للأدب المفتوح على الخيال والواقع معاً؟ كيف نقرأ كافكا اليوم؟ حياة كافكا 1883-1924 القصيرة استعارة أيضاً. مات قبل أن يبلغ الواحدة والأربعين. مات مسلولاً. سنة 1917 اكتشف الأطباء جرثومة السلّ في صدره. يوميات 1917 تخبرنا شيئاً من أفكاره وأحاسيسه عندئذٍ. أين يوميات 1918؟ ماكس برود لا يمنحنا جواباً. يكتب أن يوميات كافكا تغطي 13 دفتراً وأن الدفتر الثاني عشر يبدأ في 15 أيلول سبتمبر 1917 ويستمر الى 10 تشرين الثاني نوفمبر 1917 ثم يقفز مباشرة الى 27 حزيران يونيو 1919 ويستمر الى 10 كانون الثاني يناير 1920. برود يقول إن صفحات كثيرة مُزِّقت من الدفتر. برود يقول إن كافكا نفسه مزّق هذه الصفحات. هذه صفحات 1918؟ لماذا مزّقها كافكا؟ برود يقول إن خط كافكا يتغير في الدفاتر ال13. الدفاتر الثمانية الأولى تختلف عن الدفاتر الخمسة الأخيرة. خط كافكا تغير مع تقدمه في العمر، صارت حروفه أصغر وأدق. هذا يعني - بين أشياء أخرى كثيرة - أن الصفحة الواحدة باتت تتسع لعدد أكبر من الكلمات. هذا يعني اننا خسرنا كلمات كثيرة. بورخيس كتب أواخر سبعينات القرن العشرين ان كافكا كتب"سور الصين العظيم"سنة 1919. كافكا كتب القصة المذكورة في 1917. هل يبدل تاريخ القصة شيئاً؟ برود نفسه يعطينا تاريخين مختلفين لتأليف القصة المذكورة: مرة يقول 1917. ومرة يقول 1918. هذا لا يغير شيئاً؟ تحوي القصة المذكورة جملة تصف الدم في دورته: جملة تذكر الدورة الدموية ومساحات الصين اللانهائية معاً. اذا كتب هذه الجملة شخص مصاب بالسل ينزف دماً من فمه انتابنا إحساس مفزع. كافكا كتب هذه الجملة قبل أيام من نوبة النزيف الأولى؟ المؤكد ان القصة نُشرت للمرة الأولى بعد اكتشافه مرضه. ماذا كتب كافكا في 1918؟ لم يكن العالم خرج من الحرب العالمية الأولى بعد. العالم يترنح، الجثث تغطي صفحة الكوكب، وكافكا مشغول بالسلّ في رئته. هل شغله السلّ عن العالم؟ هل شغله الخاص الأسود عن العام الأسود؟ ولماذا يهمّنا كافكا 1918 في هذه الساعة؟ كيف ملأ كافكا سنة 1918؟ ماذا كان يكتب؟ وماذا كان يقرأ؟ في 1921 كرر قراءة"موت ايفان اليتش"لتولستوي. كان يُعد نفسه للموت؟ لكن قصص كافكا كلّها استعداد للحظة الأخيرة. لماذا جذبه الموت؟ عيناه الواسعتان تحدقان الى العالم ويرى في ساعة الموت عبور الحياة كلها. ألم يفعل هوميروس هذا بينما يكتب"الإلياذة"؟ لحظة سقوط الإغريقي ترى حياته كلها من الولادة الى الزواج الى المغامرات التي تنتهي في ساحة المعركة. الحياة شغله الشاغل. كيف يتواصل أو يعجز عن التواصل مع الآخرين ومع نفسه. طوال الوقت ينظر الى أعماقه. ماذا يرى؟ ومن قبل ماذا كان ينتظر؟ كليما يقول في"حب وقاذورات"ان كافكا انتظر طوال حياته لقاء. زانيوسكي في"جرذ"يكتب عن كافكا ولا يكتب عنه: يكتب عن كائن يبحث ويبحث ويبحث ولا يعرف ما الذي يبحث عنه. هل يبحث؟ الرحلة حياته. وعلى الطريق يرى أشياء لا تعد ويعرف أشياء لا تعد. يفقد أشياء لا تعد ويربح أشياء لا تعد. وصف كافكا في الساعات الأخيرة من حياته نحلة أيقظته فجراً: كان يحتضر وكتب على ورقة ان نحلة كانت ترشف رحيق زهرة على حافة نافذته. لعله قضى 1918 يتأمل الأشجار.