لم يكن ممكناً هذه المرة تغطية مهرجان "أصوات المتوسّط" الذي تحتضنه كل عام مدينة لوديف الفرنسية، أثناء فترة حدوثه. فالدورة العاشرة كانت احتفالية متكاملة في كل محطاتها، وبالتالي كان لا بد من متابعة تطوّراتها حتى النهاية لتقويم الجهد المبذول ونتائجه. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن الطابع الاحتفالي للمهرجان لا يبرره فقط مرور عشر سنوات على وجوده، ولكن أيضاً وضعه انطلاقاً من هذا العام تحت رعاية"يونسكو"، الأمر الذي يعني اعتراف هذه المؤسسة المرموقة بقيمته الشعرية، وبالتالي دعمه معنوياً ومادياً. ويأتي هذا التطوّر المهم في تاريخ المهرجان في سياق تحرّك الكثير من الشخصيات الشعرية المتوسطية العام الماضي لردع رئيس المقاطعة جورج فريش من تقليص موازنته. وجاءت كلمتا الشكر اللتان وُجّهتا إلى الشاعر صلاح ستيتيه من رئيس بلدية لوديف النائب روبير لوكو ومديرة المهرجان مَيتي فالِس بلاد أثناء حفلة الافتتاح، لتبيّن من كان وراء هذا الانجاز النبيل. الأمر الثاني الملاحَظ في هذه الدورة الاستثنائية هو التغطية الإعلامية الكبيرة التي حظي بها المهرجان مقارنة بالدورات السابقة، وتجلت في عشرات المقالات الفرنسية وغير الفرنسية وفي برامج بث مباشر لإذاعات وقنوات مهمة مثل"فرانس كولتور"وپ"قناة فرنسا الثالثة"، اضافة إلى تصوير فيلم وثائقي حول المهرجان بإشراف المخرج المعروف ريمي سوتي تناول فيه نشاطات المهرجان ككل، وركّز على القراءات ومداخلات التي قام بها الشاعران الفلسطيني غسان زقطان والإسرائيلي روني سوميك في مقابلة غير مباشرة نتج منها تقاربات مثيرة في المسارين والمواقف. ولأن هذه الدورة هي احتفال بأعوام المهرجان العشرة، دعي شعراء شاركوا في الدورات السابقة مع شعراء مدعوين للمرة الأولى. ومن أصل 89 شاعراً متوسطياً، كانت حصة العرب 28 شاعراً هم: حبيب تنغور وأبو بكر زمّال من الجزائر، أحمد الملا وريم فهد من السعودية، سوسن دهنيم من البحرين، أحمد طه وهدى حسين من مصر، ميسون صقر من الإمارات تغيّبت لأسباب شخصية، سرغون بولص وسعدي يوسف من العراق، زياد العناني من الأردن، وديع سعادة وعباس بيضون وصلاح ستيتيه وفينوس خوري غاتا من لبنان، عبدالفتاح البيشتي وأبو قاسم المزدوي من ليبيا، محمد بنيس ومحمود عبدالغني من المغرب، زاهر الغافري من عمان، وخيري منصور وغسان زقطان من فلسطين، نزيه أبو عفش ورولا حسن وصالح دياب من سورية، محمد الغُزّي ومنصف غانم وعبدالرزّاق ساحلي من تونس. ومن بين الأصوات العربية التي كان لها وقع قوي في لوديف: وديع سعادة الذي حضر بقصائد ذات طابع مسارّي يختلط فيها الواقع بالخارق في شكل حلمٍ وتفضي دائماً إلى ومضاتٍ شعرية جميلة، وسرغون بولص الذي تميّز بحضوره"المغناطيسي"وبقصائد سوداء تشكّل مأساة العراق مسرحها الدامي، وهي كناية عن أوراق نعيٍ للإنسان العراقي والضمير في العالم. ولم تكن قصائد غسان زقطان أقل سوداوية من قصائد بولص، وإن كانت أقل مباشرة وأكثر إيحائية. وقد وقعت على كاهل هذا الشاعر مهمة الإجابة عن أسئلة المخرج سوتي أثناء تصويره الفيلم المذكور، فتميّز بهدوءٍ ورقةٍ واعتدالٍ حتى عندما كانت الأسئلة تمسّ جروحاً ما زالت مفتوحة وذكريات ما زالت حيّة. عباس بيضون الذي قرأ قصائد من كتابه الصادر حديثاً في باريس بعنوان"مدافن زجاجية"دار أكت سود، أسر جمهوره بمداخلاته الشعرية المثيرة وطريقة تعبيره المرحة والبليغة في آنٍ واحد. وسجّل زاهر الغافري أيضاً حضوراً مميزاً بقصائده الصورية الشفافة والمشدودة كخيط حريرٍ فوق هاوية. أما المفاجأة العربية فجاءت من أحمد الملا الذي أطل بقصائد نثر قوية يتوجه فيها إلى الخالق بجرأةٍ كبيرة انطلاقاً من واقع الإنسان المرير، وكذلك من مواطنته ريم فهد التي تميزت بطريقة إلقائها الحارّة والمؤثّرة لقصائدها التي تشكّل صداً لجسدها ورغباتها وهواجسها الكثيرة... وعلى مستوى الشعر العربي الفرنكوفوني، تمكّن صلاح ستيتيه وفينوس خوري غاتا من اجتذاب جمهور كبير إلى قراءاتهما وحواراتهما. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعر الفرنسي الذي كان حاضراً بقوة في المهرجان. وكالعادة، توزّعت النشاطات الشعرية على ساحات المدينة وحدائقها وضفتي نهرها، مع إضافة أماكن جديدة لهذه النشاطات وإدخال ترتيبات حديثة عليها لتسهيل الاتصال العفوي بين الشعراء وجمهورهم. وعلى خلاف الدورات السابقة، لعب معرض الكتاب الشعري الذي يُنظم كل عام خلال فترة المهرجان دوراً لافتاً يترجم بوعودٍ بالنشر لعددٍ من الشعراء المدعوين وبحفلات توقيع دواوين شعرية كثيرة. أما أمسيات المهرجان فضجّت بالأعمال الفنية، بمعدل ثلاث حفلات كل مساء، لأهم المغنّين والفرق الموسيقية والمسرحية مثل سافو المغربية - الفرنسية وفيكتوريا أبريل الفرنسية ورولا سفر اللبنانية وبيبي مارتينز الأسباني وتيريزا سالغيرو البرتغالية... وكما في كل تظاهرة في هذا الحجم، حصلت بصفة ارباكات إن في عملية التنظيم أو في سلوك بعض الشعراء، ما لبثت أن انخسفت مثل كل مرة أمام كثافة نشاطات المهرجان وأهميته البالغة. فإلى جانب الفرصة الفريدة التي يوفرها المهرجان للشعراء المتوسطيين للتعرّف بعضهم على بعض خلال فترة طويلة نسبياً، علينا ألاّ ننسى أنه المهرجان الوحيد في العالم الذي تتم فيه كل سنة ترجمة الشعراء الأجانب المدعوّين، إلى اللغة الفرنسية، الأمر الذي يسمح بإيصال أصواتهم إلى الجمهور ويؤمّن لهم تفاعلاً أكبر مع هذا الجمهور على المستويين الشعري والإنساني. ومهما قلنا عن هذا المهرجان نبق دون ذلك السحر الذي يلف المدينة ومَن فيها على مدى تسعة أيام، سحرٌ نعيشه كحلمٍ سعيد نتمنى ألاّ نستيقظ منه أبداً.