في ولايته الأولى كان لافتا أن يستهلها الرئيس جورج بوش بالإعلان عن انسحاب الولاياتالمتحدة من مجموعة معاهدات دولية، أبرزها معاهدة الحد من انتشار الصواريخ الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في سنة 1972، ثم الإعلان كذلك عن تطوير نظام جديد للدفاع الصاروخي. في حينها بدا هذا استهلالا مفاجئا لإدارة لا تجد غضاضة في الإقرار بطموحاتها الإمبراطورية، لم تكن قد مضت فترة طويلة على ذلك الخطاب الذي كان قد ألقاه صمويل بيرغر مستشار الرئيس بيل كلينتون للأمن القومي في سنة 1999 أمام مجلس العلاقات الخارجية وقال فيه:"نحن القوة العالمية الأولى في التاريخ التي ليست قوة إمبريالية". في الواقع إن بيل كلينتون وإدارته لم يكونا متعففين عن الطموح الإمبراطوري، لكنهما استخدما بديلا آخر بدا كاسحا وقتها، بديل الترويج لما يسمى"العولمة"وتحرير التجارة الدولية وحركة رؤوس الأموال وفتح الأسواق.. وهو ما حقق للولايات المتحدة مكاسب اقتصادية هائلة كان من بينها تحويل العجز في الميزانية الأميركية إلى فائض لأول مرة. لكن مع وصول جورج بوش إلى البيت الأبيض في يناير 2001 بدت الإدارة الجديدة أكثر تشبعا بفكرة الطموح الإمبراطوري الصريح، إذ رأت أن تفكك الاتحاد السوفياتى وانكفاء روسيا على نفسها يتيح لأميركا فرصة ذهبية لملء الفراغ الاستراتيجي العالمي مرة واحدة ونهائية، وقطع الطريق مسبقا على أى دولة، أو مجموعة من الدول، قد تفكر في منافسة أميركا مستقبلا في المسرح الدولي.. اقتصاديا أو عسكريا أو استراتيجيا، وهو ماتم التعبير عنه صراحة في استراتيجية معلنة للأمن القومي. ثم جاء الإعلان لأول مرة عن البرنامج الجديد للدفاع الصاروخي بمثابة مفاجأة من العيار الثقيل للمنافسين والحلفاء على حد سواء. في حينها حذر الرئيس الفرنسي جاك شيراك من أن تلك الخطوة ستطلق سباقا جديدا للتسلح العالمي، بل ورأى الفرنسيون أن البرنامج الأميركي الجديد قد يعجل بانتشار الأسلحة النووية بدلا من كبحها، هي كانت نبوءة مبكرة في أوائل 2001 وقبل أحداث 11/9/2001 بشهور فيما بدا بعد ذلك وكأن النبوءة سوف تحقق نفسها. لكن تلك كانت ماتزال مجرد تخوفات حينما ألقى الرئيس جورج بوش بخطاب له في1/5/2001 قال فيه:"علينا الآن أن نتحرك بما يتجاوز القيود التي تفرضها علينا معاهدة الحد من انتشار الصواريخ الباليستية بعد أن مضى عليها ثلاثون عاما". وهكذا، وبغير أي تشاور مسبق مع روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي ومعاهداته مع الولاياتالمتحدة، أو حتى مع حلفاء أميركا في أوروبا، قال جورج بوش إنه ملتزم بنشر نظام جديد للدفاع الصاروخي بسرعة، والمضي في جعله نظاما صاروخيا شاملا خارج نطاق معاهدة منع الإنتشار الصاروخي، وأن نشر النظام الصاروخي الجديد"سوف يقوي الأمن والاستقرار الدوليين".. وأنه سوف يسعى إلى المضي نحو"إطار جديد"للتعامل مع الأسلحة النووية من خلال مشاورات سيجريها مع الحلفاء ومع روسياوالصين، أما وجه الضرورة في هذا التصعيد الصاروخي الجديد فهو التحسب لأخطار تمثلها"دول مارقة"مثل كوريا الشماليةوالعراقوإيران. لم تكن تلك الحجة مقنعة في حينها كما استمرت غير مقنعة فيما بعد، فالدول الوحيدة التي تسلحت نوويا خارج إطار معاهدة منع الإنتشار النووي كانت إسرائيل والهند وباكستان، وكل منها ترفض أصلا الإنضمام إلى المعاهدة أو الإلتزام بأحكامها، بالطبع لم يذكر جورج بوش أي من تلك الدول مطلقا، وإسرائيل على وجه الخصوص . وبدلا من ذلك جاءت الإشارات إلى إيرانوالعراقوكوريا الشمالية، وهي دور منضمة أصلا إلى معاهدة منع الإنتشار النووي وتخضع للتفتيش المنتظم من وكالة الطاقة النووية ولم تكن كوريا الشمالية حتى وقتها اتجهت نحو التسلح النووي. وبينما كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة في حينها التي رحبت بالتوجه الأميركي الجديد نحو إقامة نظام صاروخى شامل خارج القيود المقررة في معاهدة 1972 مع موسكو . فإن الرفض كان قاطعا من البداية من جانب روسيا، وهادئا من جانب الصين، ومحذرا من جانب فرنسا، ومثيرا للجدل حتى داخل أميركا نفسها، فصحيفة"الواشنطن بوست"مثلا قالت إن برنامج الولاياتالمتحدة للدفاع الصاروخي الجديد قد يخاطر بجعل العالم أقل وليس أكثر أمنا، ويزيد من التوترات بين أميركا وحلفائها وكذلك مع خصومها المحتملين مثل روسياوالصين. فالحلفاء، في أوروبا تحديدا، يرتابون في أن الولاياتالمتحدة سوف تستخدم الدفاع الصاروخي الجديد هذا كبديل عن الأحلاف والمعاهدات متعددة الأطراف، بينما الصينوروسيا تخشيان من أنه يمثل مسعى من الولاياتالمتحدة للحصول على ميزة استراتيجية حاسمة". لم تكن تكاليف النظام الصاروخي الجديد الذي تريده إدارة جورج بوش بأقل من مئة بليون دولار طوال عشر سنوات، وسيتم أخذها من أموال دافعي الضرائب الأميركيين ليتم ضخها في قطاع التكنولوجيا المتطورة بشركات السلاح الأميركية الكبرى. واعتبرت مصادر أميركية عديدة في حينها، ومن بينها جريدة"وول ستريت جورنال"، أن هذا التوجه من إدارة جورج بوش سيتيح أرباحا ضخمة لشركات السلاح الأميركية القليلة المحظوظة تلك، وهو ما جعل ويليام بفاف في جريدة لوس أنجلوس تايمز يذهب إلى حد القول إن إدارة الرئيس جورج بوش أصبحت أداة بأيدي الشركات الكبرى، وإن هذا النظام الصاروخي الجديد المقترح هو في الحقيقة"برنامج لصناعة الطيران وليس برنامجا للأمن القومي". فلنتذكر مرة أخرى أن كل هذا جرى في الأشهر الأولى من الولاية الأولى لإدارة جورج بوش.. وقبل شهور عدة من أحداث 11/9/2001 التي كانت ماتزال في علم الغيب، كان المشروع الصاروخي الأميركي الجديد معلنا بشكل رسمي، لكنه يواجه اعتراضات من روسياوالصين وتحفظات من الحلفاء الأوربيين وجدلا واسعا داخل أميركا ذاتها باعتباره مكافأة ضخمة للمجمع الصناعي العسكري وعلى حساب دافعي الضرائب الأميركيين. ثم جاءت أحداث 11/9/2001 لكي تقلب الصورة من أساسها في اتجاه التصعيد العسكري بعد أن استخدمتها الإدارة في تعبئة مشاعر الخوف داخل المجتمع الأميركي... وهو خوف كاسح موجه نحو عدو مستجد... مراوغ ومطاط وهلامي... اسمه الإرهاب الدولي. وتحت عنوان الحرب على هذا الإرهاب قامت أميركا بغزو أفغانستان واحتلال العراق ثم بدء التعبئة الدعائية ضد إيران باعتبارها"الجائزة الأكبر"في المشروع الإمبراطوري الأميركي المستجد ولم تعد هناك غضاضة في تناوله داخل مراكز البحوث وأحاديث بعض كبار السياسيين في إدارة جورج بوش. مع تعثر أميركا في مغامرتها العراقية، وعزلة الإدارة خارجيا وتنامي المعارضة ضدها داخليا.. لم تبدى الإدارة أي رغبة في مراجعة نفسها، وفي مقال نشرته"النيويورك تايمز"في 2004 وصف الصحافي الأميركي رون سوسكيند حوارا أجراه مع مستشار مقرب من الرئيس جورج بوش لم يفصح عن اسمه، لكن الفكرة السائدة كانت توحي بأنه كارول روف، في الحوار تحدث مساعد الرئيس بوش قائلا: أنتم المحللون والكتاب كطائفة تعتقدون أن الحلول يجب أن تأتي بعد دراسة متأنية تستند إلى الواقع الملموس... العالم لم يعد يعمل على هذا النحو، إننا اليوم امبراطورية، وعندما نتصرف فإننا نخلق واقعنا الخاص بنا، وبينما أنتم تدرسون هذا الواقع الجديد براحتكم.. سنخلق مرة أخرى وقائع جديدة يمكنكم أن تدرسونها أيضا، تلك هي الطريقة التي تنتظم بها الأشياء، إننا فاعلون في التاريخ، وليس أمامكم جميعا سوى التفرغ في كل مرة لدراسة ما نقوم به. لكن مع الوصول إلى سنة 2007 كانت وقائع سنة 2004 تغيرت إلى الأسوأ، بل واضطرت إدارة جورج بوش إلى التضحية بكارل روف نفسه، ومن قبله التضحية بدونالد رامسفيلد وزير الدفاع وآخرين، أما مشروع النظام الصاروخي الجديد فقد استمر يمضي في مجراه بقوة المصالح العاتية التي كانت تدفع به من البداية، وهكذا قفزت الإدارة الأميركية إلى بولندا وتشيكيا لكي تقيم لنفسها هناك أجزاء من هذا النظام وراداراته، وبغير تشاور مع أي من الحلفاء أنفسهم، وتحججت الإدارة من جديد بأن نشر هذا النظام الصاروخي وملحقاته في بولندا وتشيكيا إنما يتم تحسبا لأخطار صاروخية قد تأتي من ... إيران. وكما تابعنا مؤخرا فإن الحجة لم تنطل على روسيا بالمرة .. ورأت أنها أولا، والصين تاليا، المقصودة تحديدا بالنظام الصاروخي الأميركي الجديد، لقد تتابعت الانتقادات الحادة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسجلا أمام مؤتمر الأمن الأوروبي أن مثل هذا النظام الجديد سيخل بالأمن الأوروبي من أساسه وفي جميع الأحوال لن تقبل به روسيا كما أنها لن تقف أمامه مكتوفة اليدين. وحينما لم تصغي إليه أميركا، وكررت تصميمها المعلن على نشر هذا النظام الصاروخي الجديد سواء أعجب هذا روسيا أو لم يعجبها، اضطرت روسيا إلى المضي قدما باعتراضاتها في خطوات عملية بدأت بالعودة إلى إجراءات كانت روسيا تخلت عنها طوعيا بعد انتهاء الحرب الباردة، إجراءات من نوع توسيع مهمات الطائرات الاستراتيجية الروسية لتصل إلى سواحل المحيطين الهندي والهادي... وحتى عمل مناورات عسكرية مشتركة مع الصين وباقي الدول الأعضاء في منظمة شانغهاي... زائد خطط جرى الإعلان عنها لإعادة التسليح العسكري مداها سبع سنوات وتبلغ قيمتها مائتي بليون دولار لإدخال أجيال جديدة من الصواريخ والطائرات والغواصات بعيدة المدى إلى الخدمة. وهكذا فإن ما بدا كنبوءة مبكرة في صيف سنة 2001 تحول إلى واقع متصاعد في صيف سنة 2007. وأصبح العالم على عتبة سباق جديد للتسلح، سباق قد لاتخوضه روسيا الحالية بمنطق الاتحاد السوفياتي فيما مضى، لكنه سيجعلها حريصة بدرجة أكبر على التحديث السريع لما تملكه من تكنولوجيا عسكرية، وهي الميدان الوحيد الذي كانت موسكو تمضي فيه متنافسة مع واشنطن رأسا برأس... إن لم تكن سابقة لها في بعض المجالات، ويأتي هذا التطور بعد أن عملت أميركا منذ انتهاء الحرب الباردة على إخراج التكنولوجيا العسكرية الروسية من السباق ودفعها إلى التقوقع على نفسها والموت البطيء من داخلها. بالطبع سيضع السباق الجديد تكلفة أكبر على الاقتصاد الأميركي، ولأول وهلة قد لايمثل هذا مشكلة أميركية، فمن ناحية يتجاوز الاقتصاد الأميركي، من حيث الحجم والقدرة، الاقتصاد الروسي عدة مرات، ومن ناحية أخرى تتمتع الولاياتالمتحدة الآن، كما كان حالها طوال سنوات الحرب الباردة، بوجود حلفاء أغنياء لها تستطيع ترحيل بعض التكاليف إليهم ولو بالشخط فيهم بين وقت وآخر كما جرى في الماضي. وثالثا: نجحت الولاياتالمتحدة في إخراج صناعة السلاح الروسية من أسواق دولية عديدة ورثتها فيها توا صناعة السلاح الأميركية بما يحقق لأميركا أرباحا فلكية، ورابعا: أصبح كل ما سبق يسمح لأميركا بأن تتجاوز ميزانيتها الدفاعية السنوية كل الميزانيات الدفاعية لباقي دول العالم.. مجتمعة. في الخلاصة... يستطيع الاقتصاد الأميركي، حتى في حالته الراهنة، تحمل تكاليف هذا التصعيد المستجد في سباق التسلح نوعا وكما، إنما المشكلة هي أن هذا السباق الجديد في التسلح الذي تفرضه أميركا على العالم سينجح في كل شىء.. ما عدا الهدف الأساسي المقرر له وهو: منع الصعود الاقتصادى لأطراف دولية منافسة، وكما ذكر المؤرخ المعروف بول كينيدي في كتابه الصادر قبل عشرين سنة بعنوان"صعود وهبوط القوى العظمى"، فإن رحلة الصعود إلى عرش القوة العالمية تبدأ من وجود القوة الإقتصادية... وكذلك تبدأ رحلة الهبوط من تراجع تلك القوة الإقتصادية. بالمناسبة، كتب بول كينيدي مؤخرا يقول:"هناك في الوقت الراهن أدلة مؤكدة على حدوث تغيير في موازين القوى الإنتاجية في العالم من منطقة إلى أخرى... وهو أمر يحدث الآن كما سبق له أن حدث في فترات سابقة من التاريخ... وعلى الرغم من أن الأميركيين يمكن أن يصبحوا بعد خمسين سنة من الآن أكثر ثراء، بل أكثر ثراء بكثير، مما هم عليه حالياً، فإن نصيبهم من الكعكة العالمية سيكون أصغر، كما أن قوتهم الصلبة ستكون أقل مما هي عليه اليوم". كلمات كتبها بول كينيدي شرحا لفكرة يطرحها عن"الأفول النسبي الذكي"التي يريد لأميركا أن تأخذ بها طوعا... قبل أن يضطرها التاريخ إلى ما هو أسوأ... ولم تتنبه له قوى امبراطورية سابقة عبر خمسمائة سنة. * كاتب مصري.