بعد أقل من عشرة أيام من اجتماع القمة الأميركي - الروسي الأخير أصبحت روسيا تنقل اعتراضاتها على - وتحذيرها من - المشروع الصاروخي الأميركي الجديد في أوروبا إلى مستوى دولي أكثر اتساعاً. ففي اجتماع للدول الأعضاء في منظمة شانغهاي للتعاون حذّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أن إصرار الولاياتالمتحدة على نشر منظومتها الصاروخية الجديدة في بولندا وتشيكيا سيكون له تأثير يتجاوز أوروبا إلى آسيا كلها. وطوال الشهور الأخيرة كانت روسيا توجه رسائلها المباشرة إلى دول أوروبا تحذيراً لها من التطور الأميركي الجديد بنشر عشر منظومات صاروخية أميركية في بولندا ونظام راداري تكميلي في جمهورية تشيكيا، والآن تنقل روسيا تحذيراتها إلى مستوى دولي أكثر شمولاً، حيث منظمة شانغهاي للتعاون لا تضم فقط روسياوالصين وأوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزيان، وإنما تضم أيضا الهند وباكستان وأفغانستانوإيران بصفة مراقب. بموازاة ذلك كررت تقارير صحافية من وزارة الخارجية الأميركية أن أميركا لن تنشر عناصر منظومتها الصاروخية الجديدة في بولندا وتشيكيا فقط، وإنما ستتوسع في ذلك بما يشمل استرالياوبريطانيا والدنمارك وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وإسرائيل والهند وهولندا والنروج وتايوان وأوكرانيا واليابان. وباستثناء اسرائيل واستراليا وتايوان ليس مؤكداً - بعد - أن الدول الاخرى ستوافق على نشر النظام الصاروخي الأميركي الجديد في أراضيها، لكن روسيا لا تريد الانتظار أكثر من ذلك حتى توضح لكل من يعنيهم الأمر أن الخطوة الأميركية الجديدة تدفع بالعالم إلى سباق مستجد في التسلح ربما يعيد إلى الأذهان ما جرى في سنوات الحرب الباردة. لا ينشأ هذا الاحتمال من فراغ، ففي 23/3/1983 أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان رسمياً عن مبادرة عنوانها الدفاع الاستراتيجي وعرفت إعلامياً باسم حرب النجوم. في حينه أقامت تلك المبادرة الدنيا ولم تقعدها لأنها كانت تصعيدا خطيرا في سباق التسلح أثار أسوأ الهواجس في الاتحاد السوفياتي، وهو ما كان مقصودا بالضبط، فالفكرة الأميركية السائدة وقتها هي أن دفع الاتحاد السوفياتي إلى مجاراة الولاياتالمتحدة في سباق للتسلح أكثر كلفة سيضع موسكو أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تمويل سباق التسلح المستجد على حساب النمو الاقتصادي فيصاب الاقتصاد السوفياتي بحالة من الكساح، أو التسليم بالعجز إذعاناً للهيمنة الأميركية الجديدة. لم تكن المسألة في وجود أو عدم وجود التكنولوجيا اللازمة لدى أي من الطرفين، فكلاهما يملكانها، لكن المسألة كانت هي قدرة الاقتصاد الأميركي على تحمل تكاليف السباق الجديد خصوصا أن حلفاء أميركا أثرياء وقادرون على المساهمة في التمويل، بينما الاقتصاد السوفياتي لم يكن يتجاوز حجمه في حينها نصف الاقتصاد الأميركي، بالإضافة إلى أن حلفاء الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية هم عبء عليه وليسوا إضافة إلى موارده. سواء لهذا السبب أو لأسباب أخرى إضافية نشأت في الفكر السياسي الأميركي مدرسة تؤمن بأن ذلك السباق الجديد من التسلح الذي فرضته أميركا خلال سنوات الثمانينات هو الذي أدى في نهاية المطاف إلى انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان ثم من أوروبا الشرقية وقبوله توحيد ألمانيا، وأخيرا تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه. هذا دفع بالولاياتالمتحدة إلى شعور غير مسبوق بالنشوة والانتصار جعلها تتراجع عن المضي في مبادرة الدفاع الاستراتيجي لتفكر في أمر أكثر انكماشا ومحدودية باسم"الحماية الشاملة ضد الضربات المحدودة"، بعد النشوة والتقدم الأميركي لملء الفراغ الدولي الناشئ عن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى دفع حلفاء الاتحاد السوفياتي السابقين في أوروبا الشرقية إلى الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي بقيادة أميركا. بعدها عادت مدرسة سباق التسلح في أميركا تنشط من جديد، سواء باسم المحافظين الجدد أو باسم الدعوة إلى قرن أميركي جديد. وطوال الخمس والأربعين سنة التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية كان أي اجتماع على مستوى القمة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي يؤخذ دولياً باعتباره حدثاً جللاً تسبقه وتوازيه وتلحق به التحليلات والتوقعات، نظراً لانعكاسه المؤكد على الحال الدولية سلباً أو إيجاباً، إنما في الاجتماع الأميركي الروسي الأخير على مستوى القمة بين جورج بوش وفلاديمير بوتين كاد الإعلام الدولي يتناول الواقعة كحدث اجتماعي أكثر مما هو سياسي استراتيجي، وحرص المضيف الأميركي نفسه على إحاطة الحدث بأجواء اجتماعية في بلدة كينيبنكبورت الأميركية على ضفاف المحيط الأطلسي، حيث الملابس غير رسمية والزوجات حاضرات، بل وحتى الرئيس الأسبق جورج بوش الأب وزوجته في لقطات باسمة مبرمجة خصيصا للإعلام كما لو أن الأمر لا يتجاوز حدثاً اجتماعياً من التزاور بين جيران يتشاركون في رحلة لصيد الأسماك وشي اللحوم. كان معروفا مسبقا أن علاقة موسكوبواشنطن تعاني من توتر متزايد بعد أن أصبح حلف شمال الأطلسي على أبواب روسيا، ثم بعد مشروع اميركا الصاروخي الجديد التي تنوي اقامته على أراضي دولتين كانتا حتى أقل من عقدين حليفتين تعتمدان على حماية موسكو، اضافة الى رفض موسكو الصارم لإصرار أميركا المسبق على استقلال كوسوفو بعد نجاحها سابقا في تفكيك يوغوسلافيا ووجود قوات حلف شمال الأطلسي على أراضيها في قواعد عسكرية دائمة جرى استبعاد روسيا منها عمداً للاستفادة من سنوات الخنوع والمهانة الروسية في سنوات رئاسة بوريس يلتسين. قبل هذا وبعده كان الإصرار الأميركي على إخراج روسيا بالكامل من السوق الدولية للتكنولوجيا النووية السلمية بالضغط عليها لوقف تعاونها التجاري مع إيران، وكذلك ضرب المجمع العسكري الصناعي الروسي في مقتل من خلال إرغام روسيا على وقف صادراتها من الأسلحة الى دول العالم الراغبة في الحصول على أسلحة أكفأ وأرخص للدفاع عن نفسها. بينما في الوقت نفسه أرغمت أميركا كل دول أوروبا الشرقية على استبدال تسليحها الروسي بأسلحة أميركية أغلى ثمنا ومصحوبة كالعادة بشروط والتزامات سياسية. كل هذه، ضمن تطورات أخرى، كانت ضغوطا متوقعة فرضت نفسها على اجتماع القمة الأخير بين الرئيسين الأميركي والروسي، وإن كان أكثرها إلحاحا من وجهة النظر الروسية المشروع الأميركي الجديد بنشر المنظومات الصاروخية الأميركية المستجدة في أراضي بولندا وتشيكيا بحجة أنها تحسب لخطر عاجل من... إيران. استباقا لاجتماع القمة هذا طرح الرئيس فلاديمير بوتين على واشنطن علنا اقتراحاً اعتقد أن فيه من الإغراء ما سيدفع أميركا إلى قبوله: إذا كانت الحجة هي وجود خطر صاروخي من إيران، الاقتراح هو أن تفتح روسيا أمام أميركا قاعدتها للإنذار المبكر الموجودة في جمهورية أذربيجان، والتي تستطيع عمليا رصد أي صواريخ تنطلق من إيران بأسرع وأكفأ من نظم أميركية مستجدة تسعى إليها أميركا في بولندا وتشيكيا الواقعتين في أوروبا. هذا حل أكثر كفاءة وعملية إذا كانت أميركا صادقة فعلا في تخوفها من صواريخ إيرانية. فبدلا من أن تذهب أميركا بصواريخها وراداراتها إلى بولندا وتشيكيا كي ترصد صواريخ محتملة من إيران، ها هي روسيا تدعو أميركا إلى أذربيجان، وبموافقة وتشاور مسبقين مع أذربيجان، التي تقع مباشرة شمال غرب إيران، فيصبح هذا بديلا أكثر فعالية وأقصر سبيلاً إلى تعاون أميركي - روسي مشترك بدلاً من خلق توتر جديد باتساع المسرح الأوروبي. القصة المتكررة أميركيا بوجود صواريخ إيرانية تمثل خطرا مستعجلا على أميركا وأوروبا لم تكن لها مصداقية في أي وقت، فلا إيران تملك صواريخ تطال أميركا ولا إيران لها مصلحة في معاداة أوروبا شريكها التجاري الأكبر. فوق هذا وذاك فإن روسيا، الأقرب جغرافياً إلى إيران والمصدر الأساسي لتسليحها، هي الأكثر قدرة على تقويم وجود خطر إيراني من عدمه، وحتى لو كان الاتحاد السوفياتي خرج مهزوما من الحرب الباردة وحتى لو كانت موسكو السوفياتية انكمشت وتراجعت إلى موسكو الروسية، إلا أن موسكو ما تزال تملك من العلم والتكنولوجيا والعلماء وأجهزة الرصد ما يسمح لها بأن تكون لتقويمها صدقية كافية، ولأن روسيا أدركت مبكراً أنها هي تحديداً، وليس إيران، المقصودة من نشر النظم الصاروخية الأميركية الجديدة في بولندا وتشيكيا فقد تطوعت بهذا المخرج في أذربيجان كي تسد الذرائع الأميركية. لكن الذرائع الأميركية استمرت قبل وبعد اجتماع القمة الأخير، بل إن الرئيس الأميركي المضيف كرر في حضور ضيفه الروسي إصراره على مشروعه قائلاً:"أعتقد أن من الضروري أن تكون تشيكيا وبولندا جزءاً من المنظومة"الصاروخية الجديدة. من هنا انتهى اجتماع القمة الأميركي - الروسي الأخير إلى لا شيء، واستمر كل طرف في طريقه: أميركا مستمرة في توسعها الصاروخي الذي سيضم لاحقا دولا أخرى في الشرق الأوسط وآسيا وروسيا مستمرة في شكواها واعتراضها. معظم دول العالم، ومن بينها حلفاء لأميركا في أوروبا الغربية، يرى أن هذا التصعيد الصاروخي الأميركي الجديد لا ضرورة له، فمن حيث القوة العسكرية لدى أميركا مليون ونصف مليون جندي تحت السلاح يرتفع إلى مليونين و400 ألف جندي إذا اضفنا قوات حلف شمال الأطلسي تحت قيادتها ولديها 5163 رأساً نووياً و12 حاملة طائرات وعشرات القواعد العسكرية حول العالم، بما في ذلك حول روسيا نفسها، زائد أساطيل بحرية دائمة في كل محيطات العالم. في المقابل لدى روسيا مليون جندي تحت السلاح وإن كانت ظروفهم متدهورة و5830 رأساً نووياً وحاملة طائرات واحدة وليست لديها قواعد عسكرية خارج أراضيها، والإنفاق العسكري الأميركي يمثل 45.7 في المائة من إنفاق دول العالم كافة، بينما لا يتجاوز نصيب روسيا أكثر من ثلاثة في المائة، وتتجاوزها في ذلك بريطانيا وفرنسا والصين واليابان وألمانيا. ومنذ سنة 1991 لم تخرج روسيا من أوروبا الشرقية فقط، وإنما من كل الشرق الأوسط أيضاً وكل الاتحاد السوفياتي السابق. هذا التطور الأخير على وجه الخصوص ربما يكون الأكثر وجيعة وإذلالا للشخصية الروسية المعاصرة. فبسقوط الشيوعية عادت روسيا سبعين سنة إلى الوراء، لكن بضياع النفوذ الروسي من دول الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصا من أوكرانيا، تكون روسيا فقدت ثلاثمئة سنة من تاريخها، وبسعي أميركا إلى دفع أوكرانيا لدخول حلف شمال الأطلسي لا تواجه روسيا خصما جديدا على حدودها فقط وإنما في قلبها التاريخي للمرة الأولى منذ سنوات بطرس الأكبر. ويتفق هنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي - وكل منهما كان مستشاراً سابقاً للأمن القومي - على أن نشر المنظومة الصاروخية الأميركية الجديدة في بولندا وتشيكيا وتالياً في دول أخرى لا يجب أن يتحول إلى مواجهة استراتيجية بين الولاياتالمتحدةوروسيا. لكنهما في اللحظة نفسها - ومعهما برنت سكوكروفت المستشار الأسبق للأمن القومي - يتفقان على أنه لا يجب أن يتاح لروسيا حق النقض الفيتو بالنسبة الى انتشار قوات حلف شمال الأطلسي، في أوروبا أو غير أوروبا. بهذا المعنى - الشيء ونقيضه - لا نصبح أمام مجرد مدرسة في الفكر السياسي الأميركي عنوانها المحافظون الجدد، وإنما نحن أمام المحافظين الأميركيين الجدد والقدامى معاً، والمعنى هنا واضح. فالسياسات الدولية لا تعرف الرحمة أو الشفقة. فالضعيف يظل يدفع ثمن ضعفه إلى أن يصبح قوياً والقوي يظل يجني ثمار قوته إلى أن تبزغ قوة أخرى منافسة، من هنا التحسب الأميركي المبكر لبزوغ قوة الصين، حتى لو كانت تلك القوة مؤجلة إلى جيل آخر في المستقبل. لكن التاريخ كثيرا ما يكون له منطقه الساخر يفاجئ به الأقوياء بين وقت وآخر، فمن كان يتصور، قبل خمس سنوات، أن أميركا بصفتها القوة العظمى الوحيدة عالمياً يمكن أن تصاب بكل هذا الشلل والعجز والتكلفة في بلدين صغيرين ضعيفين فقيرين بمستوى أفغانستانوالعراق؟ لقد نجح الرئيس الأميركي جورج بوش في إزاحة خبر اجتماعه بالرئيس الروسي من الصفحات الأولى إلى صفحات المجتمع. في اللحظة نفسها فشل الرئيس الأميركي في الاحتفاظ بالقتلى الأميركيين على أرض العراقوأفغانستان في صفحات الحوادث، وأصبح هؤلاء المادة التي تفرض نفسها يوميا على الصفحات الأولى، وللسنة الخامسة على التوالي. إنها المفارقة التي لم يتوقعها بالمرة محافظو أميركا، الجدد منهم والقدامى. * كاتب مصري