شكّل تقرير لجنة التحقيق في شأن ما حدث في قطاع غزة، لجهة سيطرة حركة حماس عليه تطوراً نوعياً جديداً في الساحة الفلسطينية، التي لم تشهد في تاريخها أي نوع من المساءلة والمحاسبة والمراجعة والتغيير والتجديد، على رغم التحديات واللحظات المصيرية التي واجهتها من الأردن الى لبنان وصولاً الى الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن التجربة العسكرية الى التجربة التنظيمية الى التجربة الكيانية. وينطبق الأمر على الخيارات السياسية التي أخذتها هذه الساحة على عاتقها لتحقيق أهدافها، من المقاومة الى الانتفاضة مروراً بالمفاوضة. ويمكن تفسير ذلك بالطريقة الفردية والمزاجية التي انتهجها الرئيس الراحل ياسر عرفات في قيادة العمل الفلسطيني، وضمنه قيادة فتح، والتي تنبع من عوامل عدة، من بينها رؤيته لمكانته الرمزية كزعيم تاريخي أكثر من مكانته كقائد سياسي، وتفضيله العلاقات الأبوية والزبائنية، لجمع المتناقضات من حوله، في الحالة الفلسطينية المعقدة والاستثنائية، ما أدى الى افتقاد الساحة الفلسطينية روح المسؤولية الجماعية، وعلاقات المأسسة والديموقراطية والتنظيم، وإضعاف الارتكاز على العقلانية ودراسات الجدوى في الخيارات والسياسات وأشكال العمل. أما ما يمكن أخذه على القيادة الفلسطينية الراهنة، فهو تأخرها كثيراً في التحول نحو المساءلة والمراجعة والمحاسبة، وكان الأولى بها ان تسير في هذا الاتجاه، وان تستخلص العبر المناسبة، من الصعود الساحق لحركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام الماضي، والذي ما كان ليتم بهذا الشكل لولا تشرذم صفوف فتح، وهشاشة بناها، وتعدد قوائمها المناطقية، وتنافس قياداتها، وغياب المرجعية القيادية المؤسسية فيها. يستنتج من ذلك ان غياب المراجعة والمحاسبة بعد الانتخابات، والاستهانة بخسارة فتح فيها، وعدم التبصر بالعوامل التي أدت الى ذلك، هي التي أدت الى هزيمة فتح الثانية ومعها السلطة، بأجهزتها المتعددة، في قطاع غزة، في شهر حزيران يونيو الماضي، أمام اجهزة فتح وجماعاتها العسكرية. كذلك يمكن ان يؤخذ على القيادة الفلسطينية أنها ذهبت نحو المعالجات الأمنية للموضوع، وكأن الأمر هو مجرد هزيمة عسكرية، تتحمل مسؤوليتها الأجهزة الأمنية والقائمون عليها. في حين ان ما حصل يمس وجود فتح والسلطة في القطاع، من الأجهزة السياسية الى البنى التنظيمية، وصولاً الى الأجهزة العسكرية. وغابت عن التقرير، الصادر عن لجنة التحقيق، مسائل أساسية من ضمنها محاسبة المستوى القيادي السياسي، الذي يتحمل المسؤولية عن وجود أجهزة عسكرية وأمنية، على كثرتها وثقل موازناتها، بهذا الشكل المترهل والمعيب، والذي يفتقد أية أهلية بالنسبة الى حماية مشروع سياسي معين، فما بالك بحماية الوطن والمواطن! وفوق كل ما تقدم، فإن القيادة السياسية مسؤولة عن انفلاش الساحة الفلسطينية، وفوضى جماعاتها المسلحة، وتآكل مرجعياتها القيادية والمؤسسية والشرعية، من فتح الى المنظمة مروراً بمؤسسات السلطة، حتى لم تكن ثمة شخصيات قيادية وازنة من فتح والسلطة في قطاع غزة إبان حصول ما حصل. عدا عن ذلك فإن التقرير نحا نحو تحميل المسؤولية عن كل ما جرى في قطاع غزة للعقيد محمد دحلان، مستشار الرئيس للأمن القومي، ومن معه، في شكل خاص، وللمستوى الأمني ? العسكري، في شكل عام. ويخشى ان هذا الاستنتاج جاء فقط لتغطية رغبات شخصية، او لتقديم مجرد كبش فداء، ومن دون استنباط الدروس المناسبة، من دون ان نقلل من مسؤولية المذكور عما حصل. ما نقصده هنا هو ان توجيه المسؤولية في هذا الاتجاه، على رغم الجزئية والانتقائية فيها، ينبغي ان توضع في إطارها السياسي النقدي، أي ان تذهب الى نهاياتها المنطقية. وهنا بالضبط ثمة أسئلة تطرح ذاتها، فمثلاً: كيف وصل محمد دحلان الى ما وصل اليه من نفوذ في الساحة الفلسطينية بما سمح له بالتعالي حتى على الزعيم الراحل ياسر عرفات؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ ثم من المسؤول عن السكوت عن الممارسات والتجاوزات التي ارتكبها محمد دحلان ومن مثله في الساحة الفلسطينية طوال الأعوام الماضية؟ ثم من هو المسؤول عن طغيان الأجهزة العسكرية الأمنية في العمل الفلسطيني؟ من ذلك فإن انهيار وضع السلطة وحركة"فتح"في قطاع غزة لا يتحمله شخص بعينه ولا مجموعة بعينها، كما لا يتحمله الإطار العسكري فحسب، فالمستوى السياسي في فتح والسلطة يتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن الانهيار الحاصل، كما ان المستوى التنظيمي يتحمل مسؤوليته أيضاً في ذلك. لذا، فما حصل في السابق يحصل اليوم، حيث ان مراجعة فتح والسلطة ستظل مراجعة ناقصة وجزئية وخجولة، اذا اقتصرت على محاسبة بعض ضباط الأمن، في حين ان المطلوب اكثر وأعمق وأبعد من ذلك. هكذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو: هل سيشكل هذا التقرير بداية لتوجه جديد في الساحة الفلسطينية نحو إعمال النقد والمراجعة والتجديد في مجمل بنيانها وشعاراتها وعلاقاتها وأشكال عملها، أم انه مجرد"فشة خلق"، تكتفي بتقديم الأضاحي لتمرير مرحلة معينة؟ * كاتب فلسطيني