دخلت الساحة الفلسطينية في المجهول ليس فقط بسبب التحديات الخارجية الاسرائىلية والاميركية التي تضغط عليها بشدة سياسياً وعسكرياً ومالياً، ولا بسبب اوضاعها الداخلية الهشة وقابليتها للاختراقات والتدخلات الدولية والاقليمية، فحسب، وانما ايضاً بسبب الفراغ القيادي بمعناه الاستراتيجي الذي تعانيه، خصوصاً منذ اندلاع انتفاضة الاقصى، اي قبل ما يقارب السنتين، اذ سرعان ما اتضح أن ثمة ضعفاً في الاستعداد لهذه النقلة النوعية الكبيرة، وأن ثمة تخبطاً ومزاجية في ادارتها وتعيين اهدافها. فمثلاً لم تقم القيادة الفلسطينية وهي التي تقود، في الوقت ذاته، المنظمة والسلطة وحركة فتح، بإجراء التحضيرات المناسبة للانتفاضة التي ارادتها وسيلة للضغط على حكومة ايهود باراك، في حينه، لدفعها نحو ابداء اكبر قدر من التجاوب مع الحقوق الفلسطينية، فهي لم تقم بتحضير نفسها ولا بمفاتحة شعبها ولا فصائله لا بمسألة الانتفاضة ومتطلباتها ولا بحقائق العملية التفاوضية وتعقيداتها. والأنكى من ذلك ان هذه القيادة لم تبذل من جهتها اي جهد لتوجيه الانتفاضة، بحكم التزامها الاتفاقات الموقعة مع اسرائيل التي تفرض عليها حلاً للقضايا الخلافية بالوسائل السياسية. والنتيجة ان القيادة الفلسطينية تعاملت بازدواجية متعبة ومكلفة مع الانتفاضة، فهي تبنتها سياسياً ونظرياً ولكنها تمنعت عن قيادتها ميدانياً وفعلياً، وهي، ايضاً، تعمدت ترك مسافة بينها وبين فاعليات الانتفاضة، خصوصاً المسلحة منها، ولكنها في الوقت نفسه حالت دون تشكل قيادة ميدانية مستقلة لها، وبذلك تركت الانتفاضة نهباً للعفوية والفوضى والمزاجية والقيود، ما اهدر طاقاتها وأدخلها في سياسات متضاربة في غير محلها وخارج سياقاتها. وفي الواقع كانت الانتفاضة في حاجة ماسة الى قيادة ميدانية مستقلة ولو نسبياً لأسباب، اهمها: اولاً، ضرورة انبثاق قيادة ميدانية ترشد مساراتها وتنظم طاقتها وتعين اهدافها، وثانياً، حاجتها الى شكل من اشكال التعبير المستقل ولو نسبياً عن ذاتها الشعبية وإرادتها التحررية، وثالثاً، لتجنيب القيادة الرسمية الحرج السياسي على الصعيدين الدولي والاسرائيلي الناجم عن تعهدها سلوك طريق التفاوض، وأيضاً، عن وضعها كسلطة معنية بتأمين الحاجات الاساسية لشعبها. وبالطبع فإن الفصائل الفلسطينية بمختلف تياراتها تتحمل المسؤولية، بقدر معين، عن تردي الوضع القيادي الفلسطيني، اذ انها فوجئت وأربكت، سياسياً وميدانياً، باندلاع الانتفاضة، بسبب ركون بعضها للتحالف مع السلطة واعتماده عليها، وبسبب تركز جهد بعضها الآخر على معارضة عرفات على حساب انشغاله بمتطلبات الصراع ضد اسرائيل وسياساتها، فضلاً عن ان التآكل الذاتي للكثير من الفصائل ساهم بدوره في الفراغ القيادي الحاصل. لهذه الاسباب كلها ينبغي وضع قضية اصلاح الهيئة القيادية الفلسطينية في اول سلم الاصلاحات الداخلية، فمنذ سنوات بات يصعب الحديث عن وجود هيئة كهذه، لا على مستوى منظمة التحرير ولا على مستوى السلطة الوطنية، ولا حتى على مستوى حركة "فتح"، فضلاً عن غياب المؤسسات القيادية التمثيلية الفلسطينية مثل: المجلس الوطني والمركزي والتشريعي، فما هو موجود عبارة عن جسم هلامي غير محدد لا من حيث الشكل ولا من حيث الصلاحيات، يتألف من خليط من كل ما سبق ذكره، من هيئات، مضافاً اليه بعض قادة الاجهزة الامنية والمسؤولين الماليين والمستشارين المتنفذين. ولا شك في ان الرئيس ياسر عرفات يتحمل تحديداً المسؤولية الاكبر عن تغييب الهيئات القيادية الفلسطينية الشرعية، لمصلحة تركّز الصلاحيات في شخصه، فهو رئيس الهيئات السياسية والامنية والمالية، وهو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية وزعيم حركة "فتح"، وهو الذي يصوغ كل القرارات المصيرية والكبيرة والشكلية والصغيرة في آن! وطبيعي ان هذا الوضع الشاذ سمح لبضعة اشخاص من "المستشارين" المحظيين، الذين لا يمتلكون اي شرعية، ببناء مراكز قوة ونفوذ أمني ومالي وسياسي، ما جعلهم "يمونون" على القرارات المصيرية والتحكم بمقدرات الساحة الفلسطينية، على حساب الهيئات الشرعية مستمدين شرعيتهم من رضى الرئيس عنهم، ما اتاح لهم، ايضاً، تطويق الرئيس عرفات نفسه بالمعطيات التي تتلاءم مع اهوائهم وارتباطاتهم. والآن، فإن طريقة "الاستقالات" و"التعيينات" العجيبة وردود الفعل الغربية عليها ومحاصرة عرفات في مقره في رام الله من دون اي رد فعل يذكر واستمراره في العمل واتخاذ القرارات، بالطريقة ذاتها التي اعتاد عليها، تثير، مجدداً وبإلحاح اهمية التركيز على اولوية اصلاح القيادة الفلسطينية من خلال ترسيم الفراغ القيادي، المؤسساتي والتشريعي في الساحة الفلسطينية، التي عانت كثيراً ودفعت غالياً ثمن المبالغة بدور "الابوات" على حساب المؤسسات، وبالمراسيم الرئاسية على حساب الهيئات التشريعية والشرعية، وبالتنظيمات والاجهزة على حساب المجتمع. فهذه الساحة تحتاج في عمليتي المقاومة والبناء الى بنى مؤسسية وهيئات مقررة قائمة بذاتها وقادرة على الاستمرار والتطور بغض النظر عن التحولات السياسية الحاصلة. على ذلك فإن القيادة الفلسطينية، وخصوصاً الرئيس عرفات، تخطئ باعتقادها أن الساحة الفلسطينية يمكن ان تتحمل الفراغ القيادي المريع الذي تعانيه، وتخطئ اكثر اذا اعتقدت أن الاصلاح القيادي يقتصر على تحريك اشخاص من اماكنهم وتغيير في الشكليات، والمصيبة انها أخطأت كثيراً حين تعمدت تأخير الاصلاح والتغيير وحين استجابت، بمقدار معين له، بعد الضغوط الاميركية والاسرائىلية الممارسة عليها. من جهة أخرى، وبغض النظر عن شبهة الابتزاز الاسرائىلية والاميركية، يبدو ان لا مناص من ايجاد فصل بين السلطة ومنظمة التحرير، او بين القيادة السياسية والحكومة الفلسطينية. وفي الواقع الفلسطيني، المعقد والاستثنائي، لم يكن خلط كهذا لا في مصلحة السلطة ولا في مصلحة المنظمة، كما بينت التجربة الماضية. ففي مرحلة المفاوضة انهمكت القيادة الفلسطينية بالعملية السياسية على حساب بناء المؤسسات، فلا نجحت في هذا ولا في ذاك. والأنكى ان هذا التداخل خلق مخاطر اخرى تمثلت ببروز شخصيات معينة لها وظائف متعددة، فالوزير المسؤول عن قطاع معين يمكن ان يكون مفاوضاً سياسياً وأمنياً ومالياً وناطقاً اعلامياً باسم الشعب الفلسطيني! والمسؤول الامني ينطبق عليه الامر نفسه! وهذا الخلط في الوظائف خلق شريحة لها مصالح وطموحات محددة، ربما قادت الى انحيازات وتوجهات سياسية معينة، ما يعني ضرورة الفصل بين الوظيفة الادارية والامنية والمالية في اطار السلطة، وبين القيادة السياسية، ومن ضمنها شؤون المفاوضات المعنية بمصير الشعب الفلسطيني. اما في مرحلة الانتفاضة فظهر في شكل واضح أن مهمات السلطة مختلفة عن مهمات المنظمة، اذ تعذر على السلطة ان تظهر بمظهر الموجه للانتفاضة، للأسباب التي شرحناها، ولكن ذلك لم يعفها من تحمل تبعات الانتفاضة بسبب وحدة جسم القيادة، وهو ما ادى الى تدمير مؤسسات السلطة وتقويض البنى التحتية للفلسطينيين في المناطق الخاضعة لها، اما بالنسبة الى قيادة المنظمة فهي ما كان لها ان تختزل نفسها الى مجرد سلطة في الضفة وغزة بحكم استمرار الاحتلال، اولاً، وبسبب اهتمامها بالحفاظ على مكانتها ودورها بالنسبة الى الفلسطينيين في كل اماكن وجودهم، ثانياً. ولا شك في ان وجود ياسر عرفات، في وقت واحد، في موقعي رئىس السلطة الوطنية ورئىس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الفلسطينيتين فضلاً عن كونه زعيماً لحركة "فتح" كبرى الفصائل الفلسطينية هو الذي خلق اشكالية التداخل بين السلطة والمنظمة، ما سهّل على اسرائيل استهداف الوضع الفلسطيني برمته، اذ انها بحصارها لياسر عرفات تشل الساحة الفلسطينية وتهدد، من خلال استهدافها لشخصه، ركائز العمل الفلسطيني، اي السلطة والمنظمة و"فتح". على ذلك، فإن اصلاح القيادة يتطلب، ايضاً، وضع الأسس اللازمة لقيام شرعية خاضعة للمحاسبة والمساءلة والقانون ويحتكم الى اصول العلاقات الديموقراطية في اتخاذ القرارات وصوغ السياسات، ما يفترض التخلص من الحال الهلامية والفردية والمزاجية، اي الحال التي لا توجد فيها مرجعيات قانونية ودستورية وسياسية، لأن هذا الوضع هو الذي ينتج الفوضى والفساد والعبث في الساحة الفلسطينية. وأخيراً، فإن التغيير القيادي الفلسطيني المنشود لا بد من ان يأخذ في اعتباره الواقع الصعب والمعقد للساحة الفلسطينية، وخصوصاً لجهة الاشكالية الناجمة عن وجود كيان سياسي فلسطيني في طور النشوء، واستمرار حركة التحرر الفلسطيني، بحكم استمرار الاحتلال، وهذه معادلة ينبغي احتسابها بدقة، حتى لا تتمكن اسرائيل، من جهتها، من تحقيق هدفها المتمثل بوأد الكيان الفلسطيني، وحتى يتمكن الشعب الفلسطيني من جهته من الحفاظ على حقه في النضال لاستعادة حقوقه. المهم انه وبغض النظر عن الشبهات التي تثيرها الدعوات الاميركية والاسرائىلية للاصلاح في الساحة الفلسطينية، فثمة حاجات داخلية - ذاتية تؤكد ضرورة اجراء عملية مراجعة وتجديد او تطوير للنظام السياسي الفلسطيني وتوليد قاعدة إجماع واسعة حول القرارات المصيرية المتعلقة بعمليتي البناء ودحر الاحتلال، وثانياً لأن اصلاح الفلسطينيين لأحوالهم هو، في حد ذاته، ركيزة اساسية من ركائز صمودهم امام التحديات الاسرائىلية. * كاتب فلسطيني.