رواية سحر الموجي الأخيرة "ن" الصادرة عن روايات الهلال، أيار/ مايو 2007 إحدى أهم الروايات التي أبدعتها الروائيات المصريات الشابات في السنوات الأخيرة. ويرجع ذلك، أولاً، لجسارة الكتابة الروائية التي تقتحم مناطق لا تزال في حاجة إلى الاقتحام والمزيد من الكشف. ثانياً: القدرة الروائية العالية التي أوصلت الكاتبة إلى ذروة إبداعها، بالقياس إلى أعمالها الثلاثة السابقة مجموعتا قصة قصيرة ورواية. وثالثاً: القدرة التقنية على تقديم جدارية سردية، غنية بشخصياتها المتعددة، وتفاصيلها الكثيرة التي لم يختلّ تناغمها بين أصابع الكاتبة التي اكتسبت درجة عالية من التجريب والمهارة، وذلك في مواجهة عالم عبثي قمعي مجنون، مملوء بالتخليط والرعب، كأنه كون خلا من الوسامة، أكسب أبناءه التعتيم والجهامة، حين سقطوا فوقه في مطلع الصبا مع الاعتذار عن اقتباس صلاح عبدالصبور لا يملكون سوى رغبة مواجهته بالرفض والتمرد، والحلم المستحيل بزمن يأتي بأنسام العدل والحرية والتقدم. وأخيراً، لأن الرواية تقدم بطلاتها وأبطالها بموضوعية نسبية، فلا تزعم تعميماً، ولا تمثيلاً للكل بالبعض، وإنما تؤكد - على لسان إحدى الشخصيات - أنها تصوغ وعي شريحة خاصة، لا تنوب عن غيرها، ولا تنطق إلا صوتها المحدود الذي لا يمثل إلا نفسه، ومع ذلك يبقى الخاص المغرق في خصوصيته منطوياً على دلالة من دلالات التمثيل التي يمكن أن نرى بها المجتمع في أعين عدد محدود من الشخصيات، والكون في ذرّة من الرمال، إذا استخدمنا شعر ويليام بليك 1757-1827. أما حرف"النون"الذي يستخدم عنواناً للرواية، فهو حرف غني بدلالاته في الموروث الإسلامي والفرعوني، إذ يدل - في سياقاته المتعددة - على الرحابة والاتساع، الصبا وجمال الوجه الطفولي، البراءة، القطع والانقطاع، التيه، القمع والسيف، السجن والعقاب، الخلق والبناء، التحدي والقسم بالكتابة المقدسة التي لا تخلو من معنى الإعجاز، الأنثى المطلقة التي هي الأم الكبرى التي يبدأ منها كل شيء ويعود إليها، كالأرض والماء والرحم. ولذلك جاء في"لسان العرب"أن"النون: الحوت، والجمع أنوان ونينان"، وهي"الحوت التي دُحيتْ عليه سَبعُ الأرضين"، فقد قيل في المأثورات الشعبية إن الله خلق النون ثم بسط الأرض عليها، فاضطربت النون فمادت الأرض، فخلق الجبال فأثبتها بها. والنونة: النّقبة في ذقن الصبي الصغير، علامة جمال ومصدر حسد. وقيل إن النون شفرة السيف، واسم سيف لبعض مشاهير العرب، أما ذو النون فلقب يونس عليه السلام، سمّاه الله به لأنه حبسه في جوف الحوت الذي التقمه. وأخيراً، فهي حرف قسم في قوله تعالى:"نون والقلم وما يسطرون"سورة القلم، الآية الأولى. ونون سحر الموجي رواية تنطوي على أكثر هذه الدلالات، فهي تحمل دلالة الأنوثة الأولية، لأن أكثر شخصياتها بروزاً وغنى شخصيات نسائية، لا تخلو حياتهن مما يحيط بهن كالتيه، ويلتقمهن في جوفه، قمعاً وسجناً بالمعنى المجازي. لكن بما لا يجعلهن بعيدات عن دلالات الغواية في المدى الرمزي لترابطات الأرض الربيعية التي تتبرّج بعد حياء وخفر، تبرّج الأنثى تصدَّت للذكر، في ما يقول شعر ابن الرومي القديم. ولا يخلو الحضور الأنثوي، في هذه الرواية، من معنى التحدي والمواجهة والرفض، فهو حضور حر للذات التي تواجه أشكال السجن والتمييز والدونية المفروضة عليها، في عالم قمعي، يلقم المتمردات عليه في جوفه، ومع ذلك لا يتوقفن عن مواجهته، والدقّ على جدرانه، لا بالمعنى السلبي الذي يدق به أبطال رواية"رجال في الشمس"1963 لغسان كنفاني الذين أطبق عليهم الخزان كالموت المحتوم الذي تحول - بعد سنوات معدودة - إلى رمز قومي أكبر بعد كارثة 1967، وإنما بالمعنى الإيجابي الذي تتضافر فيه دقات الأيدي مع رغبة الحياة العفية التي قد يستجيب لها القدر، فيلفظ الحوت من يستحق الحياة لأنه لم يتوقف عن مقاومتها واحتضان حلمها المستحيل. ولذلك تمارس إحدى الشخصيات شعائر"تدبير المتوحد"، ويردد الفضاء الصحراوي الذي احتواها كالحوت صدى لشبح الآخر الذي كان يحادث"حسام"، ممتزجاً بصوته الذي نطق برباعية صلاح جاهين: أنا اللي بالأمر المحال اغتوى/ شفت القمر نطّيت لفوق في الهوا/ طلته ما طولتوش إيه أنا يهمني/ وليه ما دام بالنشوى قلبي ارتوى. وإشارتي إلى جدران رواية غسان كنفاني، أو جدران بطن الحوت التي أطبقت على يونس عليه السلام، إشارة مقصودة، أشير بها، ضمناً أو صراحة، إلى الحيز المكاني الضيق الذي ينغلق على بطلات رواية سحر الموجي وأبطالها، فيجعل الفضاء الروائي محصوراً في حيز مكاني محدود. ولذلك، لم أستطع مقاومة ما قامت به ذاكرتي، واعية أو غير واعية، من استعادة ضيق الحيز المكاني لرواية نجيب محفوظ"ثرثرة فوق النيل"التي أصدرها سنة 1966 حين كان عمر سحر الموجي حوالى ثلاث سنوات فهي من مواليد 1963. وأوجه التوازي الدلالي بين عوّامة نجيب محفوظ ونون سحر الموجي كثيرة، فكلتا الروايتين تتحرك شخصياتهما في مسكن"سارة"الصغير، المطل على النيل كالعوّامة، وكلا المكانين ثابت ثباتاً موقتاً، لا يتحرك أو ينفتح، بالقياس إلى النهر المتدفق الذي يطل عليه إلا في حالات قليلة، معدودة، يعود بعدها الأبطال إلى الحيز المكاني نفسه، محتمين به وفيه من العالم الذي يمضي ضد إرادتهم، ولا يأبه بهم، ولا يضع لهم اعتباراً، أو حتى ينصت إلى أصواتهم، فيهجرونه كما هجرهم، ويتجاهلونه كما تجاهلهم، محتجّين عليه بالتجمع الدوري في مسكن سارة، مستعينين بكل ما يغيِّبهم عن الواقع والوعي، في نوع من الهروب إلى الخمر والمخدرات، بما فيها تلك التي استجدّت بعد زمن أبطال عوّامة نجيب محفوظ الذين تنتسب إليهم وإليهن بمعنى من المعاني شخصيات نون سحر الموجي انتساب الأبناء والبنات إلى الآباء والأمهات. لكن فيما لا تتغير معه، جذرياً، دلالة التقوقع الاحتجاجي في الحيز المكاني المحاصِر والمحاصَر في الوقت نفسه. ويجري النيل هادئاً في مساره، على نقيض التململ القلق للمطلين عليه، إما في داخل النون الحوت - السكن المحدود المساحة أو في العوامة الثابتة بالقياس إلى حركة النهر التي تتدفق من المنبع إلى المصب. ولا تفارق الشخصيات الحيز المحدود من المكان إلا إلى الاشتراك في تظاهرات معارضة للوضع القائم، أو إلى رحلات هي نوع من"تدبير المتوحد"- اقتباساً لعنوان أحد كتب الفيلسوف الأندلسي ابن باجّة - فتسافر دنيا في رحلة إلى دير، تتوحد فيه، بفضل اليوجا، مراجعة حياتها، أو يسافر حسام إلى الواحات كي يكتشف ذاته في وحدة الصحراء التي تجبر المتوحد على أن يغوص عميقاً في نفسه، وأخيراً تسافر سارة إلى إنكلترا، كي تغدو وحيدة في مواجهة موت جدتها، معيدة تأمل حياتها ووجودها في لحظات توحدها الكاشفة. ولا تنتهي الروايتان إلا بالموت الذي يقتحم الثبات الظاهري، ويفرض إعادة النظر في كل شيء: الموت العبثي الذي تصدم به سيارة سكارى العوامة - في إحدى نوبات انسطالهم - فلاحةً بريئة، يتحول موتها إلى ما يشبه العقاب القدري على هروبهم من الواقع بدل تحديه، والموت الحتمي الذي تنتهي به نون سحر الموجي بموت الجدّة التي كانت رمزاً لزمن جميل لا يمكن استعادته في زمن موحش لفضاء مختلف اختلاف الثنائيات الضدية التي يقابل فيها الموت الحياة، التخلف التقدم، القمع الحرية، التعصب التسامح، الجنون العقل، التمييز المساواة، الفضاء الرحب الفضاء المغلق، انفتاح استدارة النون على الحرية وانغلاقها على كل ما يحول بين الإنسان وإنسانيته. وأضيف إلى ذلك تقنيات السرد التي لا تخلو، على رغم بُعد ما بين الروايتين، من نوع من التقارب، فالراوي العارف بكل شيء، كلي الحضور، واحد، ولكن بما يسمح لكل شخصية أن تنطق ما بداخلها، وتبين عن نفسها في ما يشبه النجوى الذاتية المونولوج، فتتعدد الأصوات وتتوازى، أو تتقابل، وذلك بما يجعلنا بعيدين عن أحادية النغمة المونوفونية التي يحل التعدد والتنوع البوليفونية محلها، لكن في بناء أكثر إفادة من تراكم متغيرات القص العالمي الحداثي في حال"نون"التي تبدأ من حيث انتهى غيرها، ساعية إلى تجسيد موازيات رمزية لزمن أكثر اختلافاً وتعقيداً وجنوناً وقمعاً بما لم يعد يجدي في تصويره التقنية البسيطة التي مضت عليها رواية نجيب محفوظ. وهل كان لأحد، مهما اشتطّ خياله في نشوة الحشيش وأشباهه من المخدرات، أن يتخيل ما حدث في 1967 بعد أشهر معدودة من نشر"ثرثرة فوق النيل"التي لم تكن فيها العوامة سوى رمز بالغ البساطة يوازي واقعاً ماضياً في طريقه إلى الكوارث التي لم تنته، بل بدأ تزايدها بعد 1967. ولنتذكر الانقلاب البعثي تشرين الثاني - نوفمبر من السنة نفسها الذي أدى إلى تسلّط صدام حسين، واحتلال القوات السوفياتية تشيكوسلوفاكيا، في موازاة الغارة الإسرائيلية على بيروت في السنة نفسها. وأضف إلى ذلك كوارث حرب الاستنزاف في مصر في موازاة خطة روجرز لتحقيق السلام عام 1969، وأيلول الأسود، وتولي السادات عام 1970، وانقلابه على الناصرية، وابتداء تحالفه مع الإخوان المسلمين 1971، وما انتهت إليه حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، وإلغاء معاهدة الصداقة المصرية - السوفياتية، بعد إعلان أن كل أوراق اللعب بين يدي أميركا 1976، وثورة الخبز، وزيارة السادات للقدس 1977، والثورة الإسلامية الإيرانية، وتعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية، بعد تولِّي صدام رئاسة الجمهورية العراقية، واحتلال المسجد الحرام بمكة من أولى جماعات التطرف الديني - جماعة جهيمان العتيبي 1979، وبداية الحرب العراقية - الإيرانية بعد مبدأ كارتر عن حق استعمال القوة في حالة تهديد أمن الخليج 1980، وقصف إسرائيل المفاعل النووي العراقي، واغتيال السادات على أيدي الجماعات الدينية التي تحالف معها، ووصول اليمين الجديد إلى حكم الولاياتالمتحدة مع عهد ريغان في مد التصاعد الذي لم يتوقف إلى اليوم، وإقرار الكنيست الإسرائيلي مشروع ضم مرتفعات الجولان لإسرائيل 1981، وثورة الخبز في السودان، والغزو الإسرائيلي للبنان وطرد منظمة التحرير، ومذابح صبرا وشاتيلا 1982، وثورة الخبز في تونس والمغرب، وانفراد الولاياتالمتحدة بحكم العالم 1986، وتصاعد نفوذ مجموعات التطرف والإرهاب الديني على امتداد الثمانينات، وتتابع أنشطة القاعدة التي وصلت إلى ذروتها الكارثية في الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، وما تبع ذلك من غزو أميركي لأفغانستان أولاً، والعراق ثانياً. وأضف إلى ذلك ما لا يزال يترتب على الغزو الأميركي للبلدين من مآسٍ لا نهاية لها، وذلك في السياق الذي لا يزال يؤجج الحرب الطائفية في العراق، ويزيد من كوارث لبنان، والاحتقان الطائفي في مصر. وأتصور أن الدلالات المصاحبة لكوارث هذا السياق التاريخي هي المبدأ الحاسم في المفارقة الدالة، إن لم تكن القطيعة الإبداعية، بين جيل سحر الموجي والأجيال السابقة. ولذلك تختلف أبنية روايات هذا الجيل عن الأبنية السابقة، أو حتى أبنية الأجيال الأكبر التي لا تزال تبدع في موازاة جيل سحر الموجي. والأبنية الروائية ليست أبنية قائمة في فراغ، وإنما هي أبنية وعي يتولّد عن شروط إنتاجه في واقعه النوعي الذي تتولد عنه وبه أبنية جمالية، حاملة خصائصه التكوينية بمعنى أو آخر. هكذا تتباين الأبنية الإبداعية التي ينتجها جيل سحر الموجي الذي فتح عينيه على اللحظة التي تداعى فيها البناء العملاق لدولة المشروع القومي عن الأبنية التي أنتجها جيلي الذي ولد مع مطلع الأربعينات من القرن العشرين، وتفتّح وعيه على سقوط الملوك والإقطاعيين وخروج الاستعمار، واكتمل وعيه مع صعود شعارات الحرية والوحدة والاشتراكية التي ظلَّ فرحاً بها، متفائلاً بوجودها إلى أن أحالت كارثة 1967 أحلامه إلى كوابيس، وأعادت إليه وعيه بما لم يكن يلاحظه من بذور الدمار في أصل البناء الواعد الذي سرعان ما استبدل بالحرية التسلّط، وبالاشتراكية رأسمالية الدولة القائمة على الفساد، وبالوحدة القومية المبنية على التنوع الوحدة القائمة على الإجماع الذي يعني التقبّل المذعن للتراتب القمعي الذي أكمل سمات المجتمع البطركي الحديث. وربما كان من سوء أو حسن طالع جيل سحر الموجي أن وعيه تفتّح على السقوط، واكتمل مع مشاهد الخراب العظيم والكوابيس المتلاحقة، في سنوات استبدلت التعصب بالتسامح، والدولة التسلطية ذات الملامح العسكرية بالدولة المدنية القائمة على الفصل بين السلطات، المقترنة بحق الاختلاف والتنوع الخلاّق. ولذلك كانت دوافع جيل سحر الموجي منجذبة إلى الرؤية السوداوية المتشائمة، والشخصيات المهزومة سلفاً، المحكوم عليها بالسقوط المسبق في كل محاولة للانعتاق أو كسر الدائرة المغلقة التي لا تفتح على ما يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع، فينغلق عالمها الإبداعي فيما يشبه النون التي تنغلق دائرتها على العنف والقمع والحصار الذي يسجن الكائن في ما يشبه"خزان"غسان كنفاني رجال في الشمس أو"عوّامة"نجيب محفوظ ثرثرة فوق النيل في مدى أكثر قتامة حتى من"واحة الغروب"، إذا استخدمنا عنوان رواية بهاء طاهر البديعة، فهو عالم موت وعتمة في فضاءاته المحصورة التي تتردد في مدارها المغلق أصوات الرصاص المتعصب وأسنّة الخناجر التي اغتالت المئات من أمثال عبدالقادر علولة في الجزائر، وفرج فودة في مصر، ما بين عامَي 1981 و1997، حيث بدأ الأمر باغتيال السادات، وبعده فرج فودة حزيران / يونيو 1992، وكاد نجيب محفوظ يلحق بهما تشرين الأول 1994، في استمرار تصاعد عمليات الإرهاب والاغتيالات التي توجّهت إلى المفكرين المهرطقين أنصار المجتمع المدني، وپ"السيّاح"الكفار الذين جاؤوا من بلاد الإلحاد إلى بلاد الإيمان لينالوا عقابهم في سلسلة من جرائم الإرهاب التي وصلت إلى ذروتها في عملية"الدير البحري"سنة 1997، قبل سنة واحدة من نشر سحر الموجي مجموعتها القصصية الأولى"سيدة المنام"1998 وسنتين من نشر روايتها الأولى"دارية"1999.