ملاحظة بالغة الأهمية، مزدوجة الدلالة، يمكن استخلاصها من تتبع كتابات نجيب محفوظ في السبعينات التي بدأت باستهلال العهد الساداتى الذي لازمته مفارقة تلفت الانتباه إلى طرفيها المتوازيين: أولهما أنها سنوات العقد الذي شهد تعرية مثالب الزمن الناصري والكشف عن طابعه التسلطي ومسارعته إلى القمع السياسي الذي استأصل المعارضين - أو المشتبه في أنهم معارضون - من ناحية، وشهدت تكوين الإرهاب الديني، وتشجيع أعداء الزمن الناصري على تعرية السلبيات، والكشف عن كوارث تسلطيته، فضلاً عن كوارثه وكوابيس معتقلاته، ومن ثم مطاردة بقايا أنصاره ورموزه من ناحية موازية. ولم يكن من قبيل المصادفة - في هذا السياق - أن يبادر نجيب محفوظ بالكتابة عن رعب الزمن الناصري الذي ذهب ضحيته الشباب الذين آمنوا بالثورة، وأخلصوا في ولائهم لمبادئها التي كانت أقنعة زائفة، يرتديها أعداء الثورة الذين أحالوها إلى قصور على رمال متحركة سرعان ما تهاوت في العام السابع والستين. ويبدو أن خيبة أمل محفوظ البالغة في النهاية الكارثية التي كشفت عن جذورها وأسبابها هي التي دفعته إلى المسارعة بالكتابة عن الثورة التي أبدع رموزها في نشر الرعب - سامحهم الله - فيما يقول طه الغريب، إحدى شخصيات رواية"الكرنك"التي نشرها محفوظ بعد عام وشهرين فحسب من رحيل عبدالناصر في أيلول الأسود، أيلول سبتمبر 1970، لكن مع التركيز بوصفه وفدياً ليبرالياً قديماً على قيمة الحرية التي أطاحت بها تسلطية الدولة الناصرية التي قضت على الكثير من الشباب المنتسب إلى ثورتها، ولم يعرف سواها، وحسب أن التاريخ يبدأ بها، فحلم أن يسهم معها في تجسيد الحلم القومي العظيم بإقامة دولة الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية بكل لوازمها التي تقبل الاختلاف، وتحترم كرامة الإنسان وقدرته على القبول الحر أو الرفض الحر بلا محرمات أو معتقلات، أو حجرات شهدت من الفظائع ما يندى له الجبين، ودمر إنسانية حتى المخلصين للثورة الذين خرجوا من المعتقلات بلا يقين أو أمل في شيء منتقلين من النقيض إلى النقيض في حالات كثيرة، باحثين عن خلاص، إما في الجنس والمخدرات والضياع بكل معانيه، أو في الدين الذي أصبحت العودة إليه عودة إلى رحم الأمان، وخصوصاً الحماية الإلهية التي تملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً. وكان ذلك في موازاة جماعات الإخوان المسلمين التي أصبح شبابها أكثر عنفاً، وتحولوا إلى"قضاة"لا"دعاة"، ماضين في متواليات مبدأ الرد على العنف بالعنف، والثأر لما وقع عليهم من قمع، سعوا إلى إيقاعه على الجميع، حتى الأبرياء الذين لا ذنب لهم. وكانت البداية كارثة العام السابع والستين التي أزالت أنياب القمع الناصري، فأتاحت للأقلام والألسنة أن تنطق بعض المسكوت عنه، من المكبوت السياسي الاجتماعي الثقافي الديني، في السياق الذي شهد وفاة عبدالناصر التي أدت إلى حكم السادات الذي فتح السجون الناصرية، وعقد تحالفات جديدة، وهدم المعتقلات، ظاهرياً على الأقل، مع توابع أحداث أيار مايو 1971. وتكشف الدلالتان المتوازيتان لهذه المفارقة عن السبب الذي جعل محفوظ يبادر إلى الكتابة عن عنف القمع الذي مارسته الدولة الناصرية في روايته"الكرنك"التي نشرها بعد خمس سنوات من نشر صنع الله إبراهيم روايته"تلك الرائحة"التي طاردتها الرقابة طويلاً، ولم تُنشر كاملة إلا في الزمن الساداتي، وبعد أن فتحت"الكرنك"الأبواب المغلقة التي دخلت منها روايات السجن ومذكراته السردية، ماضية إلى الحد الأقصى للسياق الذي بدأه جمال الغيطانى تلميذ محفوظ النجيب بروايته"الزيني بركات"التي نشرها في مجلة"روز اليوسف"القاهرية ما بين سنتي 1970 و1971، وتبعه فتحي غانم في"تلك الأيام"المنشورة كاملة للمرة الأولى في كتاب الجمهورية أيلول 1972، ثم صلاح حافظ في"القطار"1974، وغالب هلسا في"الخماسين"1975، وأضف إلى ذلك"شيوعيون وناصريون"لفتحي عبدالفتاح، وپ"الأقدام العارية"لإلهام سيف النصر، وپالطريق إلى زمش"محمود السعدني... إلخ. وتشبه رواية"الكرنك"في فضائها المكاني نسبياً، رواية"ميرامار"التي صدرت قبيل كارثة 1967، كما لو كانت نذيراً باقترابها، على النقيض من"الكرنك"التي كانت وقفة تأملية للأسباب التي أدت - مع غيرها - إلى وقوع الكارثة. وبقدر ما كانت"الكرنك"مقهى تجتمع فيه الشخصيات الرئيسة المنفعلة بأحداث القمع قرنفلة، إسماعيل الشيخ، زينب دياب والفاعلة له خالد صفوان، وذلك في سياق العلاقات التي يتشكل بها بناء الرواية، كانت"ميرامار"بنسيوناً نموذج مكاني مواز للقهوة ومكافئ لها في الدلالة يضم الشخصيات المنفعلة بالأحداث والفاعلة لها، وذلك في دائرة مركزها"زهرة"التي يطمع فيها الجميع الإقطاعي العجوز طلبة رضوان، الإقطاعي الشاب حسني علام، الانتهازي الذي خلقته الثورة - سرحان البحيري - كأنه البديل الأكثر معاصرة لشخصية رؤوف علوان...، ولا أستثني من الطامعين - فيما عدا عامر وجدي - سوى الوسيم: منصور باهي الذي يتحفظ عليه أخوه الضابط الكبير، في الدولة الناصرية، بطريقة موازية، لكن مناقضة لما قمع به خالد صفوان أبطال المقهى من ضحايا الثورة التي غدرت بأبنائها. أما الأب الروحي لزهرة، الوحيد غير الطامع فيها، بل المتعاطف معها، والداعم لخطواتها في تحسين وضعها، فهو عامر وجدي الشيخ الوفدي القديم الذي يرقب تحولات الزمن برموزه، ويعلق على"الأحداث"، تفسيراً وإرهاصاً، بما يشبه دور"الكورس"في المسرح اليوناني القديم. وصاحبة البنسيون في"ميرامار"لا تختلف جذرياً عن"قرنفلة"صاحبة"الكرنك"التي أفادت من زمنها القديم بما لا ينسيها الإفادة من زمنها الجديد. والفارق الظاهر في تقديم الشخصيات ما بين"الكرنك"وپ"ميرامار"هو الفارق بين طريقة المرايا المتعددة أو الأصوات المتباينة التي ينطق بها كل صوت رؤيته للحدث الأساسي من زاويته الخاصة، فتتعدد الزوايا، أو المرايا، بما يكشف عن الأوجه المتعددة للحقيقة التي تظل نسبية في النهاية. أما"الكرنك"فإن السرد فيها يعتمد على راوٍ واحد، لا نعرف اسمه، يقدم لنا الشخصيات الرئيسة بصفته الراوي العليم بكل شيء، ولكن بما ينطق الشخصيات في كل قسم من أقسامها بما يبين عن دواخلها ووقع المشاهد عليها. وما له دلالة خاصة - في هذا السياق - أن المرأة الأولى عامر وجدي لرواية"ميرامار"هي المرأة الأخيرة التي نترك معها الرواية وكلمات عامر وجدي ترن في أذن خيالنا، مؤكدة أن من يعرف من لا يصلحون له، فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود. وهي كلمات تصلح لأن تكون خلاصة لكل أحداث"الكرنك"وتجارب شخصياتها التي تحدثت للراوي عن القمع الواقع عليها، بما في ذلك زينب دياب التي لا تنسى واقعة اغتصابها، أثناء التعذيب، وفي حضرة"خالد صفوان"الذي لا يتركه الراوي من دون أن يسمعنا النتيجة التي انتهى إليها بعد كارثة 1967 التي أسهم في صنعها، وهي نتيجة يلخصها في أربعة مبادئ: أولاً: الكفر بالاستبداد والديكتاتورية. وثانياً: الكفر بالعنف الدموي. وثالثاً: اطراد التقدم معتمداً على قيم الحرية والرأي واحترام الإنسان، وهي كفيلة بتحقيقه. ورابعاً: العلم والمنهج العلمي الذي يجب أن نتقبله من الحضارة الغربية من دون مناقشة. أما ما عداه فلا تسليم به إلا من خلال مناقشة الواقع، متحررين من أي قيد قديم أو حديث. وهي مبادئ لو كان أمثال خالد صفوان يؤمنون بها، حقاً وصدقاً، لما فعلوا نقيضها، في أعماق الجحيم الذي ارتكبوا فيه جرائمهم التي اغتالت حلمي حمادة ودمّرت إنسانية رفاقه: إسماعيل الشيخ وزينب دياب اللذين هما مثال دال على مئات، إن لم يكن آلاف غيرهم من الضحايا التي لم تنفعها - في ما بعد - النصيحة التي اختتم بها عامر وجدي"ميرامار". فالنصيحة لم تُجدِ، والكارثة أعقبتها كوارث، امتدت من المحيط إلى الخليج. ومن الطبيعي، كي يكتمل التوازي، الا نسمع صوت زهرة، أو يخصص لها محفوظ قسماً خاصاً بها، فهي المعنى البريء - زهرة - الذي يدور حوله الجميع، كي يقطفوه أو يسحقوه، لكن بما لا يسد الطريق على ثغرة الضوء الواهن التي تخترق الجدران السميكة، كأنها العزاء أو البشارة. ويبقى الفارق المهم بين عامر وجدي الذي يؤدي دور الراوي الذي تبدأ"ميرامار"بمرآته الأولى، وتنتهي بمرآته الأخيرة، كأن صوته البدء والمعاد في السرد الروائي الذي يستدير ليرد العجز النهاية على الصدر البداية التي تحمل بذرة النهاية، ولكن بما يختلف عما يحدث في"الكرنك"حيث لا يرتد عجز على صدر. فالرواية تمضي في طريق صاعد، تسلم مقدماته إلى نتائجه، كأنها جدران سلّم لا ينتهي إلا بمقدم جيل أجدّ، هو جيل منير أحمد الذي يرجو الراوي الصورة الموازية لعامر وجدي أن تكون أيامه أفضل، ولكنه سرعان ما يكتشف وعي هذا الجيل بالصعوبات البالغة التي يواجهها، كأنها جبل شاهق على هذا الجيل أن يزيحه، مدركاً أن إمكانات السلب أكثر من إمكانات الإيجاب، وعندما يقول له الراوي بصدق:"الحق أنكم - أنت وزملاؤك - ثمرة لم تكن متوقعة، فمن ظلام شامل انبعث نور باهر كأنما تخلّق بقوة السحر"، يجيبه الشاب اليافع بقوله"أنت لا تدري بآلامنا". وهي إجابة تختزل الموقف كله، وتبين، ضمناً، عن تباعد المسافة بين الراوي العجوز وممثل الجيل الأحدث الذي قد لا يمضي في طريق اليمين أو اليسار، بل في طريق ثالث، سيختاره. وكان ذلك قبل أن يكتب المنظّرون المصلحون - أمثال أنتونى جدنز - عن"الطريق الثالث"الذي هو نقد ومجاوزة للاشتراكية الديموقراطية، وليس مجاوزة للثنائية الضدية بين الاشتراكية والرأسمالية بمعانيهما التقليدية. والحق أن الحوار بين الراوي الذي يقف من أبطال"الكرنك"الرئيسين منزلة الأب، يختلف عن الراوي الذي يخاطب منير أحمد، واقفاً منه موقف الجد من الحفيد. وذلك هو الفرق ما بين نجيب محفوظ الذي كتب"ميرامار"وهو في السادسة والخمسين من عمره، ونجيب محفوظ الذي كتب"الكرنك"وهو في الستين من عمره، مقترباً من السنوات التي تولّد منها وبها راوٍ يتحدث عن هذا الجيل الأحدث، من أشباه منير أحمد، حديث الجد عن الأحفاد، ولكنه لم يكن يعرف في ذلك الوقت أن كثيراً من هؤلاء الأحفاد لن يمضوا في طريق ثالث، بل في طريق لم يكن يتوقعه رواد"الكرنك"أو زبائن"ميرامار". ولم يكن يتخيله عامر وجدي حتى في أسوأ كوابيسه، ولكن أمثاله من الرواة - مثل نجيب محفوظ - يعيشون إلى ما يجاوز السبعين، بل الثمانين التي أتاحت لهم رؤية"يوم قُتِل الزعيم"قبل سنوات معدودة من محاولة قتل محفوظ نفسه، في تصاعد دوامات الإعصارات الوحشية لعنف الإرهاب الديني الذي وضع نجيب محفوظ الفاعلين له - من الشباب - موضع المساءلة في روايات النصف الثاني من الثمانينات على وجه التحديد، معتمداً على الصياغة السردية التي ينهض بها الراوي العليم بكل شيء، متابعاً، محللاً، مفسراً، مكتفياً بالتصوير والوصف الخارجي للشخصيات في الأغلب، من دون أن يغوص معنا وبنا في طبقات الشعور واللاشعور من وعي الشخصيات الإرهابية الجديدة التي اكتفى - في علاقته السردية بها - بدور الشاهد والمراقب الذي يتحول إلى ضحية - بالفعل - من دون أن نتوقع نحن أو هو هذا الانقلاب المأسوي في الأدوار والمصائر.