منذ سنوات غير قليلة، ونحن نقول لطلابنا، أثناء تعليمهم مبادئ أساسية في البنيوية، إن كل بنية أدبية لعمل واحد، أو مجموع أعمال كاتب، أو مدرسة، أو حتى عصر أدبي تنطوي على محاور أفقية ورأسية، وأنها على رغم ما توهم به من اكتفاء ذاتي ظاهري، تظل مفتوحة على خارجها، إما على سبيل التولّد بالمعنى الماركسي عند لوسيان غولدمان أو على سبيل التناص من منظور جدل علاقات الحضور والغياب على طريقة رولان بارت وتلميذته جوليا كرستيفا. والبنية تشبه استدارة حرف النون من هذا المنظور الأخير، تبدو كأنها تعود إلى مبتداها، لكنها تظل مفتوحة على خارجها. ولعل هذا المعنى الأخير كان موجوداً - على مستوى اللاشعور الإبداعي - لرواية سحر الموجي التي تنبني على توازيات وتعارضات وتقاطعات تؤكد تجاوب علاقاتها الرأسية والأفقية. من منظور العلاقات الأولى: هناك الشخصيات الأساسية من الذكور والإناث التي تتجمع في ما يشبه الثنائيات المتآلفة أو المتنافرة، في علاقات من المحبة الناجحة أحياناً، الفاشلة في معظم الأحيان، لكنها لا تكف عن التغيّر الذي يفتح الأفق لدخول أطراف محل أطراف، ابتداء من علاقة سارة بمحمود الزوج الأول الذي قضى على المعنى الخلاّق للأنوثة بلوازمها، ثم عمرو وبعده نديم، فضلاً عن حسام ومنى ثم ليلى، ونورا وخالد وتامر، ودنيا الفلسطينية الأصل. وتترابط الشخصيات في ما بينها بالعلاقة الجامعية التي تصل بين أبناء الجيل الواحد، حيث يختلط الموروث والمكتسب، الأصول الريفية والثقافة المدنية، امتزاج الأصول الأجنبية بالأصول الوطنية، كما في شخصية سارة التي هي نصف إنكليزية، نصف مصرية، من دون أن يخلّ ذلك بتكامل شخصيتها التي تصلها بميراثها الوطني، خصوصاً الفرعوني، والميراث الإنساني، خصوصاً في الدائرة التي تجعل منها أكثر رحابة في المنظور الذي يجمع ما بين الوطني والإنساني. وقس على ذلك غيره من الثنائيات المتصالحة التي يختلّ تصالحها أحياناً. أقصد إلى الاختلاف الذي يُبقي على شخصيات"الشلّة"على رغم اختلاف كل منها، لكن فيما لا يخل بالملامح المشتركة التي تصل الشخصيات في مدى متقارب السمات، داخل حيّز جامعي واحد، وهموم وطنية مشتركة، ومشاعر إحباط يتبادل فيها العام الوضع والمكانة مع الخاص، في أفق"الشلّة"التي تجتمع في لقاءات دورية، تتكرر لوازمها: الغناء والموسيقى العربية والأجنبية، التضمينات الدالة لأشعار فؤاد حداد وصلاح جاهين ومحمد الماغوط، في المدى الذي يكشف عن التقارب الثقافي، إضافة إلى تقارب الوعي السياسي الذي نرى آثاره السلبية، دائماً، في هذه اللقاءات التي لا تقضي على مشاعر المشاركة في التظاهرات أو التجمعات المعارضة. والعنصر التكويني المشترك في الوعي الثقافي - السياسي - الاجتماعي لهذه"الشلّة"هو الوعي المدني المعادي، بالضرورة، للدعوة إلى الدولة الدينية، المقاوم لانتشار التأثير السلبي للحركات الدينية، خصوصاً تأثير الإخوان المسلمين في الجامعة المصرية. وهو وعي يناقض الأعراف الصارمة التي تتغلغل في الأُسَر التقليدية التي تنتسب إليها كل شخصية. وأضف إلى خصائص هذا الوعي، بل على رأس خصائصه، أنه وعي سياسي محبط، تنعكس عليه الهزائم والكوارث السياسية التي تتزايد يوماً بعد يوم، في العالم المملوء أخطاء من المحيط إلى الخليج. ولأن أفراد"الشلّة"بعيدون من الارتباط الفعلي بتنظيمات سرية، تَعِدُ أعضاءها بعالمٍ يستبدل أفق الحرية والعدل بشروط الضرورة والقمع، فإنهم يظلون في دائرة مستقلة من عدم الانتماء الفعلي إلى أي تجمع أكبر، علني أو سري، فشخصيات الرواية تجمع - بدرجات مختلفة - عدداً من صفات"اللامنتمي"ببعض المعنى الوجودي الذي انطوى عليه كتاب"اللامنتمي"وهي الترجمة التي شاعت لكتاب كولن ولسن الأشهر"outsider"الذي أحدث دوياً غير مسبوق عند نشره سنة 1956، لكن لا يمنع اللاإنتماء - في هذا السياق - المشاركة في بعض تظاهرات الاحتجاج السياسي، في الجامعة وخارجها، حيث التعاطف مع حركة 9 آذار مارس، مثلاً، واشتراك بعض الشخصيات في"اللجنة الشعبية للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية"أو مناقشات"ملتقى المرأة". لكن الاشتراك في مثل هذه الأنشطة والتجمعات لا ينطوي على معنى الالتزام الحزبي، أو العمل الدؤوب الثابت داخل تجمع أو جماعة بعينها. وتكتمل صفات شخصيات الشلّة - إضافة إلى وعيها السياسي - بوضعها الاجتماعي الذي ينسبها إلى شرائح متباينة من الطبقة الوسطى التي تحررت من قيود يوتوبيا الإيديولوجيات القديمة والجديدة الموزّعة بين أقصى اليمين المجموعات الإسلامية وأقصى اليسار الشيوعية وما في حكمها من الأيديولوجيات التي لا تزال تحلم بوطن حر وشعب سعيد. وأضيفت إلى نفي صفات"الانتماء"، بالمعنى الإلزامي الضيق، صفة التعدد الموازية للتنوع الثقافي، داخل شخصيات الشلّة، سواء في دائرة الوظيفة الاجتماعية التي تجمع ما بين التعليم والإعلام والسياحة... إلخ، فضلاً عن تنوع التكوينات النفسية والمزاجية فيما لا يقضي على وحدة التنوع، وتظهر آثاره في اختلاف المستويات اللغوية لحوار الشخصيات من ناحية، وتعدد مستويات السرد، لغوياً، من ناحية موازية. والنتيجة هي تجاور الفصحى والعامية في لغة نون، وتباين مستويات الفصحى ووظائفها، خصوصاً في السرد الذي يصل إلى درجة لافتة من الشاعرية في حالات الحب التي يكتسب فيها الجنس بعض الأبعاد الصوفية والأسطورية، فلا يخلو من حالات الوجد، أو الإشارة إلى تبادل الآلهة التي تمزج تجاوباتها ما بين عشتار وحتحور، أو ما بين النشوة الديونيسية المتفجّرة والحضور القمري الحاني لحارسة السماء، بديل القمر، الرمز حتحور. لكن بنات وأبناء الطبقة الوسطى التي تنتسب إلى بعض شرائحها"شلّة"نون تختلف جذرياً في وعيها المعرفي عن"الشلل"الموازية في روايات الأجيال السابقة إلى أن نصل إلى شلة"قشتمر"أو"القاهرة الجديدة"لنجيب محفوظ. فالوعي المعرفي للمجموعة التي تبدأ من سارة وتنتهي بدنياً، ضامَّة حسام وعمرو ونديم وخالد وتامر، وعي ينتسب إلى عالم ما بعد الحداثة، أو ما بعد الصناعة، حيث عصر المعلومات والثورة الجذرية في وسائل الاتصال التي أحالت الكوكب الأرضي إلى قرية كونية صغيرة، ذات مفاهيم مختلفة عن الزمان والمكان. ولذلك تلازم أقراص جهاز"الكومبيوتر"ومواقع"الإنترنت"ورسائل الپ"إي ميل"حضور كل شخصية وأشكال تواصلها، فهي شخصيات لا تستخدم، مثلاً، القلم أداة التعبير عن النفس، ولا تقتصر معارفها على المدارات المحدودة التي كانت تدور فيها الأجيال السابقة من الثلاثينات إلى الستينات إلى السبعينات من القرن الماضي، بل تجاوز ذلك إلى مدارات مفتوحة على حضور غير مسبوق لنون كونية مفتوحة على المطلق المعرفي لزمن أقل ما يوصف به عبارة كارل ماركس الشهيرة في"المانفستو"التي تشير إلى ذوبان كل الأشياء الصلبة وتبخرها في الهواء. وتتعامد حركة شخصيات"ن"سحر الموجي على محاور أفقية، تبدأ بإشارات الزمن الروائي إلى الزمن الخارجي الذي صيغت الرواية في مواجهته وضده على السواء، فهناك إشارات مباشرة إلى تظاهرات الطلاب في الجامعة، اتهاماً للحكومة، مثلاً، باغتيال سليمان خاطر جندي الحدود، ريفي الأصل، حين أطلق الرصاص على عدد من الجنود الإسرائيليين، رفضوا تحذيره بعدم انتهاك التراب الوطني؟!، وذلك في سياق تظاهرات الاحتجاج على اغتيال الشيخ أحمد ياسين في فلسطين، وكوارث الحكم الأميركي في العراق، وحصار عرفات الذي انتهى بموته أو قتله بلا فارق كبير، جنباً إلى جنب صعود التبعية المطلقة للولايات المتحدة، إمبراطورة العالم الجديد، وصعود نفوذ جماعة الإخوان المسلمين الذي لا يزال قائماً في الجامعات المصرية، ولم يكن من المصادفة الروائية أن"سارة"الشخصية الأساسية، في رواية سحر الموجي، أستاذة جامعية شابة، مختصة في التحليل النفسي، مهتمة بالبحث عن أوجه التشابه بين محاكم التفتيش الديني القديمة ومقابلها العصري في زمنها الواقعي الذي يوازيه الزمن الروائي على سبيل التضمّن أو اللزوم. والتخصص في التحليل النفسي حيلة روائية، تتيح إمكان الغوص عميقاً في الشخصيات النسائية المرتبطة بالشخصية الرئيسة سارة التي تتبادل وإياهن ملامح التأثّر والتأثير، وذلك في المدى الذي لا يخلو من ملامح سيرة ذاتية، هنا أو هناك. وطبيعي أن تنداح الحيلة الروائية مع كم التضمينات الكثيرة من الشعر الإنكليزي المختصة فيه المؤلفة المعلنة لا المضمرة، فضلاً عن الأعمال الإبداعية والفكرية المكتوبة بالإنكليزية أو المنقولة إليها. ويتجاوب تخصص علم النفس مع دراسة الأدب، داخل عمليات من التناص المتجاوبة، خصوصاً في مدى تعرية القمع الديني ومحاكم التكفير التي تحولت إلى نون مغلقة الدائرة، كأنها المحرقة أو البوتقة وهي كلمة فارسية الأصل، تعني الوعاء الذي يذيب الصائغ المعادن فيه التي جعلها الكاتب المسرحي الأميركي آرثر ميللر العنوان الرئيسي لمسرحية"ساحرات سالم"1953 التي كانت احتجاجاً على المحاكمة التكفيرية التي انتهت إلى إعدام مواطنات بريئات في مدينة"سالم"الأميركية في ولاية ماساشوستس سنة 1692، على نحو مواز للجرم الذي اقترفته الأصولية المكارثية من جرائم ضد الأميركيين الأبرياء في الخمسينات، وذلك في مدى تداعيات التشابه التي تستدعيها جرائم الإرهاب الديني المعاصرة، مصرياً وعربياً، في زمن أصولي تنغلق نونه على ضحاياه، فيغدو الاغتيال المادي والمعنوي لازمة من لوازم حضور"المكفَّراتية"الذين سمموا حياتنا، واستبدلوا بالمجادلة بالتي هي أحسن الترهيب بما هو أقمع. ويتصل المحور الأفقي الثاني بترجيع مدلولات الأساطير الفرعونية التي تصوغ موازيات رمزية لشخصيات"نون"وأحداثها، فتمتد بالزمن الروائي الداخلي للرواية عبر الأزمان الثلاثة التي تنطوي عليها بنية الأسطورة بوجه عام: الماضي والحاضر والمستقبل، فالأسطورة بقدر إشارتها إلى ما يصل الزمن الماضي بالحاضر، في علاقة الموازاة، تومئ إلى المستقبل الذي يظل نتيجة التفاعل بين الزمانين بأكثر من معنى. ولذلك لا تتوقف"نون"عند دوال الموروث الشعبي الإسلامي أو تضمينه، بل تتجاوزها إلى الأسطورة الفرعونية، حيث النون رمز المحيط الأبدي، البيضة الأولى التي خرج منها العالم، عفيّاً كالنشوة، بريئاً كالطفل، في مدى سحري التحولات، تتداخل فيه الأجساد من نشوة الرقص، مرهصة بولادة نون الشمس من بين الأفخاذ، أو يبدو الهلال نحيلاً كنون لا تزال في بداياتها، أو تصل الأجساد العاشقة إلى ذروة الوصل، حيث الموجات المتتالية المتصاعدة: نون وراء نون وراء نون، إلى نون قرارة القرار، حيث النقطة العميقة في الرحم الذي تبزغ منه الحياة، ويجيء العشب والمطر. وعندئذ، تختلط نون حتحور وعشتار، وإيزيس وإنانا وأفروديت، في مدى التجاوب بين إلهات الخصوبة التي تتجدد بها الحياة كل ربيع. ولذلك، لا تتوقف"نون"عن الإضاءة القمرية الحانية، المقابلة لوقدة الشمس القاسية، في حكايات الجدة إيزابيلا عن عشق إخناتون ونفرتاري، أو زواج"شو"إله الأرض وپ"نوت"إلهة السماء الذي أثمر أربعة أطفال، منهم الطيب أوزيريس والشرير"ست". ويمتد أفق الأسطورة الفرعونية ليجمع ما بين"ماعت"إلهة العدل والحقيقة التي جسدتها الأسطورة في امرأة رشيقة صغيرة، جالسة، فوق رأسها ريشة نعامة كتلك التي توضع في كفة الميزان المقابلة لقلب الميت لمعرفة حسناته من سيئاته، في سلوك الحياة الدنيا التي تزنها موازين الآلهة العادلة. وقد بنى محفوظ روايته"أمام العرش"على رمزية موازين الآلهة الفرعونية التي تزن أعمال حكام مصر، منذ عهد مينا إلى عهد السادات. وفي هذا السياق من الأساطير الفرعونية، تظهر الثنائية الضدية ما بين حتحور ربة العشق والبهجة والرقص والموسيقى، حاكمة السماء والروح الحية للكائنات التي ترعاها كما يرعى القمر العشاق، وپ"سخمت"النقيض التي هي تجسيد للموت والتعطش للدماء والأوبئة والكوارث، فهي المرأة اللبوءة التي تتجسد فيها عينا"رع"في أحوال غضبه الحارق لأعدائه، ويتضاد حضور"نون"- في ترجيعها الأسطوري - وإلهة الشر التي تهيمن على العالم الخارجي بقبحه الذي تناهضه شخصيات الرواية ضمناً أو صراحة، وتوازي"حتحور"الشخصيات النسائية الباحثة عن بهجة الحضور في الوجود، خصوصاً شخصية سارة التي تتبادل وپ"حتحور"الأدوار، متشبهة بها في حالات النشوة الديونيسية، ناطقة باسمها، متقمصة حضورها الذي يتعدد، فيغدو شبيهاً، أحياناً، بحضور"الكورس"الذي يعلِّق ويمهد للأحداث في الدراما اليونانية القديمة، لكن في أفق من الاتحاد والانقسام الذي يُبقي الضوء الفضي الحاني لحضور"حتحور"على الشخصيات التي تلوذ بها، رمزاً أو مجازاً، خصوصاً في تقلّبات حضور سارة، داخل بناء السرد، في تعدد أزمنته التي تدني بأطرافها إلى حال من الوحدة القائمة على التنوع الخلاّق في عالم"النون"التي تبدو نبعاً ورحماً وعلامة وصل صوفي بين الأرواح والأجساد في آنٍ. ولا غرابة - والأمر كذلك في أن يبدأ كل فصل بصورة فرعونية، ذات مغزى تمثيلي، يومئ إلى تجاوبات دلالات الفصل كله، وألا يكف صوت"حتحور"عن الحضور، تعاطفاً ومواساة وتعليقاً على اللحظات التي تمر بها الشخصيات التي تحنو عليها راعية النساء، قارئة أسفار الحزن القديم في الأعين، سابحة مع الشخصيات فوق نون الرغبة، تعلو بهن بحسب مشيئتها، أو تهبط بهن في لمح البصر إلى نقطة السر القديم في منتصف النون. ولا غرابة - كذلك - في أن تنوب سارة عن حتحور في الخاتمة التي ترفع فيها المؤلفة المعلنة قناع حتحور، لكن بما يؤكد دلالات القص الذي يتحول إلى أمثولات، تتتابع إلى نقطة الوصول، أو لحظة الكشف عن سر اللعبة الروائية التي لجأت إلى أقنعة الآلهة القديمة والترابطات الدلالية للتصوف الذي أسهم في تجسيد الموجات المتتابعة للمشاعر في مدى تقابل الغيمة السوداء للإحباط وشموس البهجة التي تُنبت من الزهور ما يشق وجه الطمي الذي يحيط بضفتي النهر المقدس الذي تتحول فيه وبه الكائنات، فتكتسب الأنثى قوة الذكر، ويسترخي الذكر في حضن الأنثى التي تختزل ملامح النون الكونية التي لا يمكن فصلها عن الإنسان الذي ينطوي على العالم الأكبر، في تجاوب التضمين الذي يفتتح الرواية وينهيها.