الثقة بالنفس والتحدي وراء اصرار وزير الخارجية التركي عبدالله غل على تجديد ترشحه لمنصب الرئاسة الذي لم يفكر فيه سابقاً انما قذفت به الظروف السياسية امام قدميه مغلفاً بغطاء من شوك. اليوم تبدو الرئاسة على بعد ايام او امتار فقط من غل الذي خرج مجدداً ليطلب من المعارضة البرلمانية انصافه بعدما انصفه الناخبون الاتراك، من دون ان يعلن صراحة تجديد ترشحه لذلك المنصب. المعارضة الاتاتوركية ممثلة في حزب الشعب الجمهوري الحاصل على 111 مقعداً في البرلمان اعلنت رفضها مجدداً ترشح غل، لكن المعارضة القومية التي تحظى بسبعين مقعداً اكدت انها لن تقاطع الانتخابات، لكن زعيم الحزب دولت بهشلي ترك الباب مفتوحاً امام مساومات مع حزب"العدالة والتنمية"منتظراً مكافأة سياسية. اردوغان وغل في حاجة ماسة إلى حضور القوميين جلسة الانتخابات الرئاسية في البرلمان لتحقيق شرط حضور ثلثي النواب، وهو الشرط الذي لا تبدأ الجلسة الانتخابية من دونه، فحزب"العدالة والتنمية"حصل على 341 مقعداً في البرلمان، قد يفقد واحداً منها في حال انتخاب رئيس البرلمان من حزبه، وهو يحتاج على الاقل الى 28 نائباً حتى لا يتكرر سيناريو أيار الماضي عندما فشل في جمع ثلثي نواب البرلمان مما ادى الى الغاء الجلسة قبل بدئها. ولا يريد اردوغان هنا الاعتماد على اصوات النواب الاكراد ال26 الذين ابدوا دعمهم لترشيح غل، لحساسية الموقف. كما ان وصول غل إلى الرئاسة بأصوات او على الاقل بحضور ومباركة القوميين، سيوزع دم هذه"الجريمة"? في رأي العسكر ? على حزبين اثنين بدل ان يكون حزب"العدالة والتنمية"وحده وجهاً لوجه مع الجيش الذي تدخل سابقاً ومنع وصول غل للرئاسة. القاعدة الشعبية للقوميين ليس لديها اعتراض على غل كشخص او كسياسي، ولا على حجاب زوجته، فحزب الحركة القومية كان وعد في انتخابات 1999 بحل مسألة الحجاب لكنه لم يفعل، ويكفيه اليوم امام ناخبيه ان يكون شارك في وصول سيدة محجبة الى قمة الهرم السياسي في تركيا. وعلى الغالب فإن موقف القوميين الايجابي من غل، سيفتح امامه باب الترشح من جديد المقبل فوراً عقب أداء النواب الجدد اليمين الدستورية وانتخاب رئيس البرلمان، وقد لا يفوز غل في الجولة الاولى في حال رفض القوميون التصويت له على رغم حضورهم لكن فوزه سيكون مضموناً في الدورة الثالثة التي يشترط فيها حصول المرشح على نصف الاصوات زائد واحد للفوز، بينما يرتفع هذا السقف في الجولتين الاولى والثانية الى ثلثي اصوات النواب. وفي اسوأ الاحوال، فإن الاستفتاء الشعبي على تغيير طريقة انتخاب الرئيس سيتم في تشرين الأول اكتوبر المقبل، واستطلاعات الرأي تؤكد حسم الامر لمصلحة انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، وفي تلك الحال سيضمن غل الفوز في تلك الانتخابات التي قد تلجأ اليها تركيا في كانون الأول ديسمبر المقبل ان تعذر انتخاب رئيس بواسطة البرلمان الجديد، اما اذا حلت مسألة الرئاسة داخل البرلمان، فإن تطبيق القانون الجديد لانتخاب رئيس بالاقتراع المباشر سينتظر لسبع سنين هي فترة الرئيس الجديد. ومن المفارقة ان طرح اسم عبدالله غل للرئاسة قد جاء كحل وسط لم يتم التخطيط له، فاردوغان الذي اقتنع بأن التظاهرات العلمانية والجيش لن يسمحا له بالوصول الى ذلك المنصب، كان يفكر في ترشيح وزيرة شؤون الاسرة نعمت شوبوكشو غير المحجبة والصديقة المقربة من زوجته امينة اردوغان لذلك المنصب، من اجل ضرب المعارضة في مقتل وتسجيل سابقة يكون فيها حزب ذو جذور اسلامية ومتهم بتسييس الدين، اول من يرشح امرأة لمنصب رئاسة الجمهورية في تركيا. فكر اردوغان انه سيضرب اكثر من عصفور بحجر واحد حينها، لكن رئيس البرلمان والشخص الثالث في الحزب بولنت ارينش اعترض على هذا المخرج، واصر على ترشيح نفسه ان تنحى اردوغان وغل عن المنصب، وابدى اصراراً على ان تصل محجبة الى القصر الرئاسي لكسب جولة ضد قوى العلمانية، مما جعل اردوغان في موقف حرج واضطره الى اخفاء اسم مرشحه الى آخر لحظة، واعتبر أن غل سيكون اكثر قبولاً من ارينش المتشدد في عيون العلمانيين والمعارضة، لما هو معروف عن غل من براغماتية وتواضع وانفتاح على الغرب. لم يحسب اردوغان حينها حساب الغليان الذي يمكن ان يسببه سؤال صحافي لجنرال عما سيكون موقفه لو ان ضابطاً طلب ان ترتدي زوجته الحجاب تيمناً بزوجة رئيس الجمهورية المقبل!! لم تكن المسألة مسألة حجاب بقدر ما كانت رفضاً من الجيش لإصرار بولنت ارينش على اعتبار وصول الحجاب الى القصر الجمهوي انتصاراً في معركة طويلة بين الطرفين منذ عهد الاسلامي نجم الدين اربكان الذي ارسل محجبة الى البرلمان في الاطار نفسه. حتى تلك اللحظة كانت المسألة متعلقة بالحجاب والصراع القديم على السلطة بين الاتاتوركيين والمتدينين، وكان يمكن حينها لغل ان يتخلى عن فكرة الرئاسة تجنباً لسجالات جديدة. لكن عاملين اثنين ظهراً بعد ذلك وجعلاه يتمسك بالامر ويعتبره قضية شخصية دونها نهاية حياته السياسية. الاول كان انتشار اخبار عن اتفاق سري بين رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان وقائد الاركان يشار بيوك انيط بعد اسبوع من الازمة الرئاسية على مرشح آخر غير عبدالله غل كحل وسط، نفى اردوغان ذلك مراراً، الا ان الحادثة لقيت صدى في بطانة الطرفين غل واردوغان، و زرعت بذور الشك لاول مرة بين الرجلين. والعامل الثاني، كان حصول غل على معلومات تفيد بأن الازمة الرئاسية تم اختلاقها من الجيش، وان الهدف الحقيقي كان إطاحة الحكومة ووصول المعارضة الاتاتوركية والقومية الى السلطة من اجل تنفيذ مخططات اتفقت عليها اوساط في الجيش وزمرة من المحافظين الجدد في واشنطن، تقضي بدخول شمال العراق والاحتكاك بإيران. وتأكد غل من هذه المعلومات بعد كشف فضيحة اجتماع معهد هودسون الأميركي في نهاية حزيران يونيو الماضي، والذي دعا قيادات عسكرية تركية لبحث خطة افتراضية وضعها المحافظون الجدد، تفترض قيام حزب العمال الكردستاني بتفجيرات انتحارية يستفيد منها الجيش للانقلاب على الحكومة والاخذ بزمام الامور ودفع قوته الى شمال العراق حتى الحدود مع ايران بحجة القضاء على معسكرات حزب العمال الكردستاني، وهو المخطط الذي ينتهي باحتكاك غير مباشر بين تركياوايران على مصالحهما في شمال العراق وحرب اهلية كردية - تركية. هذان العاملان جعلا غل يتمسك بما اعتبره حقه الذي غصب منه في الوصول الى القصر الجمهوري، وبدت المسألة بالنسبة إليه لبعض الوقت مسألة شخصية، وهذا ما يفسر ظهور غل متمسكاً بترشحه، بينما يظهر اردوغان وقد ترك الامر لرفيق دربه من دون تعليق. كما ان غل مؤمن بأن اقصاءه عن الرئاسة من خلال تدخل الجيش، هو ما رفع شعبية حزبه وحقق له تلك النتيجة التي فاقت التوقعات في الانتخابات البرلمانية، وبالتالي فإن الرئاسة من حقه وتخليه عنها خذلان لمن انتصروا له وصوتوا له في الانتخابات. وصول غل الى القصر الرئاسي قد يقطع الطريق على نمو بذور فرقة بين رفيقي درب وكفاح، لان بقاء غل في الحزب والحكومة مع احساسه بالظلم والتضحية به قد يؤثر سلباً على آلية التفاهم والانسجام بينه وبين اردوغان. كما ان تركيا ستستفيد كثيراً من خبرة غل حين يتولى الرئاسة.