لم يفاجئ فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المراقبين، لكن النسبة العالية من الأصوات هي التي شكلت المفاجأة الأولى، باعتبار أن ناخباً من أصل اثنين، تقريباً، صوت ل"مواصلة الطريق"وفقاً للشعار الانتخابي لحزب أردوغان. إنها المرة الأولى بعد أكثر من نصف قرن، يكسب فيها الحزب الحاكم مزيداً من الأصوات في الانتخابات التالية. أولى معاني هذا الفوز الكاسح، هو أن غالبية كبيرة من الشعب التركي صوتت لمصلحة استمرار سياسات الحكومة القائمة. والمغزى الثاني هو أن استعراضات القوة التي قام بها حزب الشعب الجمهوري بقيادة دنيز بايكال، في التظاهرات الجماهيرية الضخمة المتنقلة، مدعومة بموقف الجيش الذي أراد التدخل في الحياة السياسية مجدداً، أدت إلى نتائج عكسية، والى المفاجأة الثانية في الانتخابات، وهي تراجع نسبة التصويت للحزب العلماني، على رغم تحالفه الانتخابي مع حزب اليسار الديموقراطي تحت عنوان وحدة اليسار. عموماً لم يلعب هذا الحزب دور المعارضة البناءة الذي كان يفترض أن يلعبه، بصفته الحزب الوحيد الذي تمكن من دخول البرلمان إلى جانب الحزب الحاكم، في انتخابات عام 2002، بل قام خطابه على"سياسة"التخويف من مخاطر"العدالة والتنمية"ذي الجذور الاسلامية"على وحدة البلاد ونظامها العلماني"، ثم انزلق حزب الشعب إلى مواقف النزعة القومية المنغلقة في مواجهة عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، متنكراً بذلك للمبادئ التاريخية للتيار الكمالي - الاتاتوركي. كما أن سلوك حزب بايكال السياسي إبان أزمة الانتخابات الرئاسية، الذي ظهر كأنه يستدعي انقلاباً عسكرياً، خفض كثيراً من شعبيته. وذهب قسم مهم من هذه الشعبية، وبفعل النزوع القوموي للحزب، إلى حيث مصبه الطبيعي، أي حزب الحركة القومية المتشدد، بقيادة دولت بهتشلي، والذي شكل صعود شعبيته الكبير من 8.4 في انتخابات 2002، إلى 14.2 اليوم المفاجأة الثانية في الانتخابات. واضافة الى الخدمة المجانية التي قدمها حزب بايكال العلماني إلى حزب بهتشلي القومي الإسلامي، لعب تلكؤ الاتحاد الأوروبي دوراً مهماً في صعود موجة التشدد القومي في تركيا، في العامين الأخيرين، ترجمت تصويتاً لهذا الحزب في صناديق الاقتراع. المفاجأة الرابعة كانت في الفشل الذريع الذي جناه الحزب الديموقراطي، اذ لم يتمكن من تجاوز حاجز ال10 في المئة، فاستقال رئيسه محمد آغار مع بدء الإعلان عن النتائج الأولية، وهو وريث الخط السياسي التاريخي لحزب مندريس في الخمسينات، وحزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل في عقدي الستينات والسبعينات. وأخذ الناخبون على آغار موقفه السلبي والملتبس من انتخابات رئاسة الجمهورية، وفشله في إقامة وحدة اليمين، مع حزب الوطن الأم بقيادة أركان ممجو، والخلافات التي ظهرت إلى العلن في صفوفه القيادية، على لوائح مرشحي الحزب، كل ذلك لعب دوراً مهماً في السقوط المدوي للحزب. ولم يشكل فوز المرشحين المستقلين مفاجأة كبيرة، وسوف يتمكن حزب المجتمع الديموقراطي الذي يمثل أكراد جنوب شرقي البلاد، من تشكيل كتلته البرلمانية في المجلس الجديد، ويعد هذا تطوراً نوعياً. وبعد تجربة المجموعة الصغيرة من النواب الأكراد، في النصف الثاني من الثمانينات، والتي تم طردها من المجلس بسبب إصرار اعضائها على اداء القسم البرلماني باللغة الكردية وسجنهم بعد ذلك هذه هي المرة الأولى التي سيتشكل فيها حزب سياسي كردي داخل برلمان منتخب. وعلى رغم ارتفاع عدد الأصوات التي نالها حزب أردوغان، انخفض عدد المقاعد التي سيحتلها في البرلمان، بسبب تعقيدات القانون الانتخابي النافذ. وأمام الحزب الآن تحديات واستحقاقات عدة سوف يمتحن فيها أمام الناخبين الذين أولوه ثقتهم. يتمثل الاستحقاق الاول في انتخاب رئيس جديد للبلاد. وفي تصريحاته الأولى بعد تأكيد فوز حزبه، أطلق أردوغان إشارات إيجابية، فقال إنه يفتح صفحة جديدة مع المعارضة، وأنه لن يتحامل عليها بالضغائن بسبب موقفها ضد ترشيح عبد الله غل للرئاسة. كما وجه رسالة مهمة إلى أولئك الناخبين الذين لم يصوّتوا لحزبه، فقال إن"رسالتهم وصلت وسيحترمها"، وقال إنه سيحافظ على النظام العلماني الديموقراطي وعلى وحدة البلاد وسيواصل مسيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. قد يفهم من ذلك أن الحزب الحاكم سيبحث عن مرشح توافقي للرئاسة، متجنباً العودة إلى أجواء التوتر والأزمة، مع كل من الجيش والشارع العلماني معاً. ويذكر أن رزمة من التعديلات الدستورية أقرت في البرلمان وأحيلت على الاستفتاء العام للمصادقة عليها، بعد امتناع الرئيس الحالي أحمد نجدت سيزر عن التصديق عليها. ووفقاً للتعديلات المقترحة، سوف ينتخب الرئيس في الاقتراع الشعبي العام بدلاً من البرلمان، على أن يحق للرئيس أن يترشح لولايتين متتاليتين مدة كل منهما خمس سنوات، بدلاً من سبع سنوات حالياً. غير أن الاستفتاء على التعديلات المشار إليها سيتطلب وقتاً من أجل إتمام الإجراءات الدستورية، في حين أن موضوع انتخاب رئيس جديد للبلاد، لا يمكنه الانتظار، وسوف يكون على جدول أعمال المجلس الجديد منذ جلسته الأولى. اذاً، الأزمة السياسية التركية،، لم تنته فصولها بعد، بل دخلت مرحلة جديدة. وما زالت سيناريوات الرعب المتعلقة باحتمال الانقلاب العسكري، متداولة في أوساط الرأي العام. لكن لم تمنع هذه الظلال القاتمة، المراقبين، من القول إن الديموقراطية هي الفائز الأكبر اول من امس.