كنا نتحدث عن أنواع موسيقية عاشت وازدهرت في بلاد معينة واستمرت فيها. هاتفتني صديقتي البلجيكية في اختتام مهرجان لموسيقى الجاز أقيم في دمشق وحلب أخيراً، وتمازحنا بأن الجاز في سورية سيصبح مثل موسيقى"الريغي"التي بات لها تقاليد عريقة في بلجيكا!. الحديث عن فرق جاز سورية، نشطت هنا فترة الثمانينات، كان كغيره من الأخبار التي يسمعها السوريون عن أنفسهم. لم يتح لهم المجال لتوطين هكذا خبر في ذاكرتهم، فالفرق لم تعد موجودة، وأعضاؤها كانوا أشبه بأبطال حكايات غابرة، لا أثر لهم الآن. إضافة إلى أن موسيقى الجاز لم يكن لها حضور يذكر، خارج نطاق بعض الحفلات المتفرقة. في الأعوام الثلاثة الماضية، تغير الوضع. منذ عام 2005 تنظم السفارة السويسرية في دمشق، بالتعاون مع فعاليات اقتصادية ومؤسسات حكومية، مهرجاناً دورياً لموسيقى الجاز. شعار المهرجان"الجاز يحيا في سورية"، والذي لازمه منذ دورته الأولى، ذهب بعيداً في التفاؤل. إذ عادة ما يكون الشعار حاملاً لأمل بعيد المدى، عبر اقتراحه أفقاً للعمل يتخطى معطيات الواقع وما يوفره. بعد ثلاث سنوات لا يقف منظمو المهرجان عند حدود شعاره، يقولون إن النتائج تجاوزت السؤال هل صار الجاز يحيا هنا حقاً؟ ينوّهون انه صار لموسيقى الجاز حياة حقيقية، بدليل أنه أعاد الى الوجود بعض الفرق التي فرط عقدها منذ زمن طويل. الدورة الأخيرة للمهرجان تضمنت 29 حفلة، احيتها فرق جاز عالمية وفرق سورية، واحتضنتها قلعتا دمشق وحلب خلال الثلث الأول من تموز يوليو الحالي. المدير الفني للمهرجان، هنيبعل سعد أشرف على تنظيمه في شكل مستقل مع زميلته ندى عثمان، كما يقول. يروي قصة تنظيم المهرجان فيقول أنها كانت خليطاً من المغامرة والحظ. درس هنيبعل في الولاياتالمتحدة الأميركية، وعاش هناك 14 سنة، وخلالها كان يتلقى دروساً في الموسيقى، ويعزف مع فرق عدّة. ممن شاركهم العزف هناك كان الموسيقي السويسري أماديس دنكل. وبعد عودته إلى سورية دعا سعد صديقه الموسيقي لإحياء حفلات جاز عدة عام 2004، مشيراً إلى أنها لقيت نجاحاً لافتاً، ما حفّز السفارة السويسرية على تبني فكرة إقامة المهرجان التي ولدت من لقاء دنكل وهنيبعل. يشرح سعد أن المهرجان تطور كثيراً منذ دورته الأولى:"الوضع تحسن كثيراً، فالدورة الأولى للمهرجان ضمت سبع فرق والآن من سورية 11 فرقة، غير الفرق العالمية المشاركة". دأب منظمو المهرجان على تكوين أسرة عبر إحضار الفرق نفسها التي شاركت سابقاً، والإضافة إليها لاحقاً. يرى سعد أن ذلك"يحقق تواصلاً أكبر بين المشاركين، وهذا ما حصل لاحقاً، فالموسيقيون الأجانب تعاونوا مع نظرائهم السوريين ودعوهم لمشاركات معهم". بهذه الطريقة باتت فاعلية المهرجان تتخطى حدوده الزمنية، فالأسرة تلتئم خلاله من دون أن ينقطع تواصل أفرادها بعده. كما أن المهرجان ولّد، منذ دورته الأولى، أوركسترا الجاز السوري السويسري. إضافة إلى الحفلات ضم المهرجان، هذا العام، ورشات عمل عدّة مخصّصة لموسيقى الجاز، وشمل نطاقها عازفين من فرق سورية، إضافة إلى ورشات عمل لتعريف الأطفال بهذا النوع الموسيقي. كان مؤثراً أن يطالع الجمهور، في برنامج المهرجان، حفلات لرباعي حلب للجاز. هذه الفرقة تأسست عام 1982 بعد عودة عازف الساكسفون هراتش قسيس الذي درس الموسيقى في جامعة"بيركلي"الأميركية، وضمت إضافة إليه، طارق فحام على الدرامز، سالم بالي بيانو ورامي قمر بيس. عملت هذه الفرقة الرائدة فترة ثم انفرط عقدها. يشرح طارق الفحام أنه، وزملاءه القدماء، عادوا للعزف معاً بعد أن دعاهم مهرجان الجاز العام الماضي، وعندما شاركوا هذا العام ارتأوا أن تعود فرقتهم إلى الحياة من جديد. يقول إن للمهرجان الفضل الأكبر في ذلك، ويؤكد على تفاؤله بالجمهور الكبير الذي كوّنه المهرجان والأثر الذي حققه في ذائقة الشباب، يعلق حول ذلك"بعد نهاية المهرجان اتصل بي أكثر من عشرين شاباً، وكلهم يريدون تلقي دروس في موسيقى الجاز، مع أن معظمهم من متابعي موسيقى الميتل". فرق جديدة رأت النور بفضل المهرجان وحوافزه، سواء الحضور الكبير أو المناسبة الدورية. مثلاً فرقة"نوتة"و"توتال"ترعاها شركة"توتال"إذ تضم أحد العاملين فيها، فرقة باسل رجوب ولينا شماميان، إضافة إلى فرق ولدت مع المهرجان واستمرت مثل فرقة"ارتجال". المنظمون مرتاحون للنتائج، لكن ذلك لا يمنعهم من القلق على مستقبل المهرجان. يدركون أنه يعتمد، في شكل أساسي، على رعاية الفعاليات الاقتصادية، وبعضها قد لا يعنيه الاستمرار في تقديم رعايته، لسبب أو آخر. ما حصل مع شركة شهيرة لمجرد أن مديرها تغير وحل مكانه شخص لا تعنيه موسيقى الجاز. "الجاز يحيا في سورية"نعم هذا بات واضحاً. وأكثر من ذلك، بات عنده أولاد عبر فرق عادت إلى الحياة أو رأت النور معه. لكن العائلة تبقى في حاجة إلى ضمان كي تستمر الحياة كريمة. فهل تنجح سورية في رعاية عائلة موسيقية وتوفير حياة كريمة لها على الأقل؟