اللافت بعد عام على الحرب الإسرائيلية على لبنان أن الرياح لم تأت بما تشتهي سفن السياسة السورية، ويظهر أن التطورات التي حصلت في الأشهر المنصرمة أضافت مزيداً من الأعباء والتعقيدات على الوضع السوري، وتنذر بانتقاله من فترة التقاط الأنفاس، أو لنقل الارتياح النسبي، إلى مرحلة جديدة من المواجهة ربما كانت أصعب مما مضى. لا بد من الاعتراف بأن حرب تموز يوليو وما خلفته من نتائج مباشرة، معنوياً وسياسياً، أعادت الاعتبار موضوعياً لدور سورية الإقليمي وحسنت فرصها وموقعها، كما أعطت حلفاءها في لبنان دفعة قوية لدخول اللعبة الداخلية، وتعزيز منازعتهم على السلطة، ما شجع على القول إن السياسة السورية اجتازت مرحلة صعبة وقاسية من الضغوط أطبقت عليها بعد انسحاب جيشها من لبنان. وكان تقدير الكثيرين أن انهيار النظام الحاكم بات قاب قوسين أو أدنى بفعل ازدياد عزلته وتواتر القرارات الدولية للحد من تداخلاته الإقليمية وخصوصاً في لبنان. وإذا كان لهذه الحرب دور كبير في تمكين السياسة السورية من اختراق حالة الحصار التي فرضت عليها وانتزاع بعض الاعتراف بدورها، فثمة مستجدات متنوعة، يمكن أن تضاف إليها، منفردة أو مجتمعة، لتفسير ما حصل، منها خيار تعزيز العلاقة مع إيران والإفادة من خطاب زعيمها الهجومي في صراعه مع الغرب والذي يمكن اعتباره واحداً من العوامل التي ساعدت أيضاً السياسة السورية على مقاومة هذا الظرف العصيب أو تخفيف آثاره. ولعبت التطورات الفلسطينية دوراً مهماً بعد فوز حركة"حماس"بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، ليبدو دعماً معنوياً كبيراً أن يرسم خالد مشعل من العاصمة السورية الخطوط العريضة لسياسة حماس في السلطة. وإذا أضفنا حالة استعصاء التوافق بين الأطراف اللبنانية المتصارعة، ثم تفاقم المأزق الأميركي في العراق وتأثيراته المكلفة سياسياً وبشرياً على إدارة البيت الأبيض، نقف أمام أهم الأسباب التي غيرت الحالة وجعلت الوضع السوري مدار بحث ومناقشة في الولاياتالمتحدة وأوروبا، كما شجعت على طرح سياسة جديدة تجاه هذا البلد كان عنوانها فتح نافذة للحوار والتفاهم بعد فترة من الجفاء والمقاطعة. بدأ ذلك بدعوة صريحة من بعض الدول الأوروبية الى اعتماد أسلوب المرونة والاحتواء، عززها من الجانب الأميركي تقرير لجنة بيكر - هاملتون الذي نصح أيضاً بفتح حوار مع دمشق وطهران لتجاوز المحنة العراقية، وتخللتها زيارات متواترة لأكثر من مبعوث أوروبي لجس النبض السوري. ولم تشذ إسرائيل عن هذا اللحن وارتفعت منها أصوات تتلاقى مع دعوات دمشق لإخراج مفاوضات السلام من الثلاجة. لكن يتضح اليوم أن الأمور لم تبق على المنوال ذاته، وثمة مستجدات كان لها طعم آخر وأضفت على هذا المسار سياقاً مختلفاً، أهمها التطورات التي تشهدها الساحة اللبنانية مع استمرار اعتصام المعارضة وعودة التفجيرات والاغتيالات وما يشهده مخيم نهر البارد من قتال عنيف، الأمر الذي دفع الصراعات هناك نحو استقطاب حاد فرض على الجميع خيارات حاسمة وأعاد ترتيب الاصطفافات والمواقف حاشداً في مواجهة السياسة السورية وحلفائها غالبية دول العالم. ففيما تتسع على نحو لافت مواقف تأييد حكومة لبنان والتحذير من أية محاولة لتفجير الوضع وبأن ذلك خياراً مكلفاً قد لا يكون لسورية وحلفائها من طاقة على تحمله، تكاملت الوجهة من الجانب الفلسطيني مع تفاقم مأزق حكومة"حماس"في السلطة، واندفاعها للسيطرة على قطاع غزة، لتفقد في ضربة واحدة جل ما راكمته من سمعة ووزن سياسيين، خصوصاً أنها تعلم أن ما قامت به سوف يستدعي تشديد الحصار على غزة الى حد قد لا يتحمّله الناس مدة طويلة. والأهم هو ما شهدته إيران، إن لجهة نتائج الانتخابات البلدية التي كشفت انحساراً واضحاً في شعبية الرئيس احمدي نجاد، وإن لجهة توافق مجلس الأمن على متابعة حثيثة لنشاطاتها النووية وفرض عقوبات عليها، ليظهر هذا البلد وحيداً ومعزولاً أمام حالة من الإجماع العالمي ترفض سياساته. صحيح أن الوضع الفلسطيني لا يزال بين أخذ ورد، لكن الصحيح أيضاً أن وصول الأمور إلى ما وصلت إليه بعد استيلاء عنيف وغير شرعي لپ"حماس"على قطاع غزة، يفقد السياسة السورية دعماً معنوياً كبيراً من الوجهة الفلسطينية. ثم إذا اتفقنا على أن نتائج الانتخابات البلدية وقرار فرض عقوبات على إيران لن يؤثرا بصورة مباشرة في سياستها الخارجية، لكن بلا شك تضعفها موضوعياً وتحد من عنفوانها عملياً وتظهر ان حكومتها لا تحظى بموافقة الشارع الإيراني أو تأييده. وطبعاً لا يمكن لأية صعوبات وارباكات في السياسة الإيرانية أن تمر مرور الكرام في الحسابات السورية التي يبدو أنها تحاول أن تتكئ على الثقل الإيراني وتعتقد أنه، بأقل كلفة، يستطيع نجدتها الى آخر الشوط. ويكتمل المشهد بنتائج المباحثات غير المشجعة لأكثر من وفد أوروبي وبرلماني أميركي زائر لدمشق، ما سمح بعودة سريعة لروح التشدد في التعامل مع النظام وبدد الفرصة التي منحت، إن صحت العبارة، للسياسة لسورية كي تفك الحصار وتسترجع علاقاتها الطبيعية مع الأطراف العربية والعالمية. والحقيقة أن ما رشح الى الآن يدل على ان الفعاليات العربية والغربية التي راهنت على ثمار إيجابية للانفتاح على دمشق قد بدأت تنفض يدها وتلتفت بدلاً من ذلك الى منح رعاية خاصة ودعم للقوى المنخرطة ميدانياً في مسارات التنمية السياسية في العراق وفلسطين ولبنان، ما يفسر تقدم الدور السعودي وبدرجة أقل المصري لتخفيف حدة التوتر في بعض بؤر الصراع، كفلسطين ولبنان مثلاً، وأيضاً ارتفاع حرارة النقد الأميركي للسياسة السورية وبخاصة تجاه لبنان، ثم الزيارة المفاجئة لوزير خارجية فرنسا الجديد إلى بيروت وتواتر الدعم غير المسبوق عربياً وعالمياً لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. ولا يقلل من شأن هذه الحقيقة محاولة ترطيب الأجواء التي شهدتها قمة الرياض أو ما تعتبره إدارة البيت الأبيض لحظة اضطرارية استدعت تواصلاً ديبلوماسياً مع مسؤولين سوريين يقتصر على معالجة المحنة العراقية، كما كان اللقاء الذي أجري على هامش مؤتمر شرم الشيخ بين كوندوليزا رايس ووليد المعلم. من البديهي أن فتح قنوات الحوار والتواصل بين طرفين هو رهن بالاستعداد المتبادل لتقديم التنازلات أو قبول كل منهما بشروط ما كان ليقبل بها. لكن تطلع السياسة السورية الى إعادة ماضيها الإقليمي إلى سابق عهده واعتقادها بأنها ربحت جولة مهمة بعد الحرب على لبنان، جعل الحديث عن فك الحصار أشبه بالأوهام، وأظهر ما يثار عن استعداد للحوار والتعاون كأنه محاولة للعب على الوقت محفوفة بمخاطر كبيرة، خصوصاً أن السياسة السورية لم تعد تملك هامشاً واسعاً للمناورة كما تعتقد، وذلك لسببين: أولهما، لا يزال خيار الحوار محكوماً في الظرف الراهن بالعديد من الصعوبات والعقبات، أكثرها وضوحاً واستعصاء أن الميل الى تأييد الجهود الرامية للانفتاح على سورية لن يكون لصالح تأكيد دورها الإقليمي أو على حساب أي من الساحات العراقيةواللبنانية والفلسطينية بينما تتطلع السياسة السورية، على العكس، الى إعادة ماضيها إلى سابق عهده معتقدة بأنها في موقف قوي وانها نجحت في إكراه الغرب من جديد على الاعتراف بوزنها ودورها. ثانيهما، تراجع الثقة بالسياسة السورية وشيوع إحساس غربي بعدم قدرتها على الوفاء بوعودها والتزاماتها بعد تجريبها أكثر من مرة وانقلابها على غير فرصة أعطيت لها لم تثبت فيها رغبة صادقة في التعاون، بل إصراراً على الطرائق والعقلية القديمة ذاتها في فرض دورها. وما يزيد الأمر تعقيداً التحسب الغربي من اندفاع السياسة السورية نحو فهم ما تبديه من لين ومرونة على أنه ضعف واستثماره تشدداً وتسويفاً ومماطلة. متغيرات كثيرة حدثت، لم تأخذها السياسة السورية في الاعتبار أو رفضت التأقلم معها، إما عن ضعف وعجز، أو ربما لتشبث واعٍ بمصالح وامتيازات لا يريد أصحابها التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان. أو لعل الأمر سوء تقدير وتضخيم للذات والاعتقاد بأن سورية لا تزال تشكل الرقم الصعب في المنطقة والذي لا يمكن بأي حال تجاوزه، وأن ما راكمته من قوى ومن صلات وأوراق نفوذ يستحق أن يؤخذ بالحسبان وأن لا يهمل، وربما يجرى تعزيز هذا الاعتقاد بالعزف على وتر التحذير من خطورة تغيير الأوضاع والتهويل بأن مثل هذا التغيير هو الخيار الأسوأ أمام احتمال حضور فوضى لا تبقي ولا تذر، أو احتمال صعود تيارات إسلامية متشددة تتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والمجتمع! في ما مضى كانت السياسة السورية تتقن اللعب على عامل الوقت والجمع بين المتناقضات، الاتحاد السوفياتي وأميركا، أو الشرق والغرب، لتعزيز وزنها وتسويغ دورها، مطمئنة نسبياً إلى الروح العامة التي تحكم السياسات العالمية، روح التفاهم والتسليم بدورها الإقليمي. لكن اليوم ثمة مرحلة جديدة بدأت، عنوانها تفكيك آليات الصراع العتيقة وقلب قواعد اللعبة القديمة، ما يدفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن المناورات الجديدة لإعادة الوزن السوري ودوره الإقليمي تسير في طريق مسدود، في الوقت الذي تتنامى فيه لدى الناس مشاعر عميقة بالقلق من خطورة الوضع الراهن وخطورة ما هو آت في حال استمرت إدارة الأزمة بحسابات المصالح الضيقة وبعقلية الماضي وأساليبه.