هل كان يعلم الروائي المصري محمد البساطي، عندما سمى روايته الجديدة "جوع" دار الآداب أن هناك رواية عنوانها "جوع" كتبها عام 1890 روائي نروجي يدعى كنوت هامسون؟ قد لا يكون مهماً البحث عن جواب على هذا السؤال ما دامت الروايتان تختلفان تماماً على رغم أنهما تدوران حول"مأساة"الجوع. لكن الجوع الذي يعانيه الصحافي الشاب في الرواية الأولى قد يكون الوجه الآخر للجوع الذي تعانيه العائلة المصرية الريفية. الجوع الفردي هنا يقابله الجوع الجماعي هناك وپ"البطل"النروجي الذي ليس ببطل يوازيه أيضاً"أبطال"مصريون ليسوا بأبطال. لا أدري ما الذي جعلني أعود الى رواية كنوت هامسون عندما أنهيت قراءة رواية محمد البساطي. حين رحت أتخيل المشهد الأول من الرواية المصرية تذكرت المشاهد الأولى من الرواية النروجية التي تصوّر الصحافي الشاب المتضوّر جوعاً متشرداً في الشارع بعدما طُرد من الغرفة التي لم يسدد إيجارها. في مطلع الرواية المصرية يطل المشهد العائلي الأليم: الأم سكينة تجلس قبل طلوع الفجر على المصطبة وفي حضنها ابنها الصغير يحاول النوم فيما الأب ينظف أسنانه بالعود والابن الكبير يقف قرب الباب... بطونهم جميعاً فارغة والمغص يتأكلها من جراء فراغها. المشهدان مختلفان كل الاختلاف لكن الجوع واحد، والشعور به واحد أيضاً وربما اللامبالاة به واحدة كذلك. وأقول"اللامبالاة"لأن الكاتبين اللذين تفصل بينهما الجغرافيا والتاريخ شاءا الابتعاد عن"شرك"الكتابة الميلودرامية جاعلين من الجوع قدراً يشبه سائر الأقدار التي تحل بالبشر عادة. ويمكن الكلام أيضاً عن حال من"الحياد"في الروايتين وكأن الكاتبين تركا شخصياتهما لا أبطالهما تواجه وحدها أو وحيدة ما تواجه من جوع وبؤس. وقد يمكن القول إن الجوع هو"البطل"في هاتين الروايتين اللتين تعتمدان البساطة في السرد والبناء والابتعاد عن مفهوم"العقدة"والتخلي عن أي غاية اجتماعية أو إصلاحية أو ثورية... فأشخاص البساطي لا يطمحون الى تغيير واقعهم بل قد يبدون راضين به على رغم فداحته وقسوته. إنهم أشخاص ? بطون إذا أمكن القول، كل همّهم في هذه الحياة أن يسدوا رمقهم ويأكلوا. أما"بطل"هامسون فهو بدوره مستسلم لقدره غالباً، واعتراضه الوحيد يوجهه الى بارئه. لا يهاجم المجتمع ولا يدعو الى إصلاحه، وعندما يتمكّن من نشر بضعة مقالات كان يكتبها في الحدائق العامة يستعيد بعضاً من الأمل ثم يعود الى بؤسه، الجسدي والروحي، والى يأسه المطلق. ولا يضيره أن يصبح بحاراً قالباً حياته رأساً على عقب. وقد لا يكون من المبالغة القول إن الجوع كان يساعده على تحمّل عزلته ويشد من أزره عندما كان يلفي نفسه وحيداً كل الوحدة. ولن يتمكن القارئ من معرفة الأسباب التي دفعت هذا الكائن المعزول والأعزل الى هذه الحال من العوز والفقر. واستطاع الجوع فعلاً أن ينصب أمام هذا البائس حاجزاً يحول دون تواصله مع العالم والبشر. ولكن الجوع يغدو حافزاً على الحركة وعلى الحياة الضئيلة التي تتبدى عبر الرواية. شخصيات محمد البساطي أقل عزلة ووحشة من"بطل"هامسون. البيئة الريفية لا تغيب لحظة هنا، على خلاف الرواية النروجية التي يختفي فيها الطابع المحلي، حتى ليمكن اعتبار مدينة"كريستيانا"مدينة أخرى. رواية البساطي في هذا المنحى ريفية بامتياز. والشخصيات هي من سلالة هذه البيئة. وتجد في أحيان كثيرة مقداراً من الحماية داخلها. والعائلة مهما فعل بها الجوع تظل منفتحة على الآخرين، الجيران والأسر. هكذا تعبر شخصيات أخرى حياة هذه العائلة البائسة من غير أن تترك أثراً. لعل ما يجمع أيضاً بين الروايتين تلك البساطة في النسج السردي البعيد عن الصنعة والتصنع. اللغة في كلتيهما شبه أليفة ويومية، تحمل قدراً من الغنائية الخافتة. لكن السرد لدى هامسون يشهد القليل من البطء في بعض المقاطع وقد قصده الكاتب ليجعل القارئ يعيش تلك اللحظات الطويلة من الجوع والبؤس، لكن القارئ لن يلبث أن يستعيد أنفاسه عبر السيل الغنائي المتقطع حيناً تلو حين. ولا تخلو الرواية النروجية من البعد السيكولوجي المتجلي عبر التحليل الدقيق للتجربة القاسية التي يكابدها"البطل"، جسداً وروحاً، هذا الشاب الذي يفتقر الى أي طريقة يواجه بها الحياة. إلا أن الكاتب لا يمعن في وصف"بطله"أو تحديد ملامحه، دافعاً إياه الى فقدان القدرة على مراقبة نفسه التي تنتهبها الهواجس والنزوات والأفكار الغريبة. شاب متمرد وعدائي في أحيان، عاجز عن الكراهية وغير حالم بأي مستقبل، يعيش في المدينة ولكن خارج أي محيط أو بيئة. غريزته هي التي تحفزه على العيش والجوع لم يستطع أن ينقذه مما يعتمل في داخله. روايتان مختلفتان كل الاختلاف يجمعها العنوان مثلما يجمعهما الجوع نفسه الذي يجعل حياة الشخصيات في كلتا الروايتين قدراً مأسوياً وغير مأسوي في الحين عينه. رواية نروجية استطاع صاحبها كنوت هامسون 1859 ? 1952 أن يكون في طليعة الموجة العبثية التي تبلورت لاحقاً مع صموئيل بيكيت وأوجين يونسكو وسواهما، ورواية مصرية نابعة من صميم الريف... روايتان استطاعتا أن تلتقيا حول قضية إنسانية مطلقة وأن تنسجا صورتين أليمتين وجميلتين للآفة القاتمة التي تسمى الجوع.