الأرقام مخيفة. الأرقام أكثر من مخيفة. إنها مُهينة، شرط أن نصدّق بيان منظمة الفاو أو الأممالمتحدة: عشرون ألف طفل دون الخامسة يموتون من الجوع يومياً، بليون شخص يعانون جوعاً مزمناً، أو ما يسمّى «نقصاً في الغذاء»، يأكلون يوماً ويجوعون أياماً، شخص من سبعة ينام بلا عشاء، خاوي البطن والقوى، هذا إن كان يتناول غداء أو فطوراً حقيقيين، بليون ومئتا طنّ من الأكل والأطايب ترمى عن الموائد سنوياً... إننا مجبرون على تصديق هذه الأرقام وإن كانت تفوق التصور. كنت أوهم نفسي أنّ زمن المجاعات الجماعية التي كنت أقرأ عنها في كتب التاريخ قد ولّى حقاً، وأنّ الجوع الذي يمكن الكلام عنه اليوم هو جوع فردي أو جوع أفراد. لكنّ الواقع كان يدفعني إلى الخيبة، ملزماً إيّاي تصديق ما لا يمكن تصديقه. إنها مجاعات حقاً، مجاعات جماعية رهيبة، هذه التي نشاهد أهلها أو شعبها، وليس أبطالها، على الشاشات الصغيرة، أو نقرأ عنها في الصحف، في ساعات الاستراحة والاستلقاء على الكنبات... كأن هذه المجاعات أشبه ب «بلدان» أو «بقع» جغرافية مترامية خارج الحاضر والواقع، كأنها أمكنة متخيّلة مثل تلك التي تنقلنا إليها الروايات أو الأفلام. مجاعات يتحدثون عنها أو نتحدث عنها كما لو تحصل في عالم آخر، في كوكب غير كوكبنا. يموت أشخاص هم إخوتنا في البشرية، وإن اختلفت ألوان بشرتهم في أحيان، فنقول : تبّاً للظلم، إنه النقص في الغذاء، النقص في المحاصيل، النقص في القمح واللحم والأرز... ما من مرّة نقول: إنه النقص في العدل والرحمة والعطاء والأخوة والتضامن... ما أبشع الشخص عندما يؤدي دور الواعظ، لا سيما في مسألة رهيبة كالجوع والفقر وسواهما. يشعر هذا الشخص أنّه يداوي جرحه هو، جرحه الشخصي، جرح فردانيته وأنانيته. أما الأنكى، فهو أن نشفق على هؤلاء الجائعين، مدركين أن شفقتنا لن تؤتي ولو لقمة، تسدّ رمق طفل يحتضر. الكلام هنا لا يجدي، كل الكلام. لا يكفي أن نكون مع الجائعين وأن نتألم لهم وأن نرثي لحالهم. أمام الجوع تسقط كل المثل، واللقمة أهم من كل المواعظ. أنهم يريدون أن يأكلوا، أوّلاً وأوّلاً وأوّلاً. كم أصاب الكاتب أو. هنري في قوله: «الحب، العمل، العائلة، الدين، الفن، الوطنية، هذه كلها كلمات فارغة من المعنى في نظر إنسان يموت جوعاً». إنها المجاعات التي تحصل في زمن العولمة. بقاع بكاملها وأرجاء واسعة مازالت بلا كهرباء ولا طعام ولا دواء... عالم مثل هذا العالم بفقره المدقع حسناً فعلت العولمة في تجاهلها إياه ونسيانه تماماً. هل يحتاج هذا العالم إلى الثورة الإلكترونية الحديثة والإنترنت وال «فايسبوك» وال «تويتر»...؟ لكنّ الكارثة هي أن يوجد عالم كهذا، ببؤسه الفادح و «بدائيته» في عصر هو عصر الفتوحات العلمية والتكنولوجية والفضائية. بشر يجوعون في عالم لم يعد يتسع لطموحات بشر آخرين أتخمتهم الملذات الأرضية وباتوا يبحثون عن متع لم يعرفوها من قبل، تمنح وجودهم آفاقاً لا حدود لها. كنت أشاهد في كينشاسا، المدينة الأفريقية، عندما أقمت فيها مطلع الشباب، نسوة وشباباً وأطفالاً يتزاحمون أمام «بروجكتورات» المصارف والأبنية الضخمة في الليل، بغية اصطياد أسراب الجراد التي كانت تجذبها الأنوار الساطعة، ينقضّون عليها بالشباك ويجمعونها ليطبخوها في أكواخهم. وفي بيروت، بيروت نفسها، مدينة الثراء الفاحش والسهر والأناقة، شاهدت مراراً أناساً يجمعون ما توافر من بقايا طعام في القاذورات. أولئك الأفارقة وهؤلاء اللبنانيون أو المقيمون في لبنان، يجمعهم همّ واحد: أن يسدّوا رمق جوعهم، أن يأكلوا ما يخفف عنهم المغص الذي يملأ بطونهم الفارغة. لا أنسى المطلع الرهيب في رواية الكاتب المصري الكبير محمد البساطي «جوع»، وفيه يطل مشهد عائلي أليم: الأم «سكينة» تجلس قبيل طلوع الفجر على مصطبة المنزل وفي حضنها ابنها الصغير يحاول النوم، وقبالتها يجلس الأب منظِّفاً أسنانه بالعود، والابن الكبير يقف متكئاً على الباب، وجميعهم بطونهم فارغة يتآكلها المغص من جراء فراغها من الطعام. لا أدري لماذا لم يعد الجوع يثير حماسة الروائيين اليوم، مع أنّ المجاعات تبلغ شأوها في العالم، العالم الفقير، العالم الثالث وما بعد الثالث؟ قرأنا الكثير عن الجوع والجائعين في روايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ومنها رواية بديعة للروائي النروجي كنوت هامسون عنوانها «جوع» (1890)، أما الآن فباتت نادرة الروايات التي يعنيها الجوع. لعلها الحداثة التي قضت على مثل هذه الموضوعات الإنسانية والواقعية. أجمل ما يمكن أن يكتب عن الجوع اليوم: أيها الجائع لا تخف لحظة موتك تضوّراً، ستجد حتما من يشفق عليك ويمدّك بنقطة ماء.