يتصدى الكاتب المصري محمد البساطي في روايته الأخيرة "جوع" للموضوع نفسه الذي تحمل الرواية عنوانه في شكل واضح ومن دون مواربة أو لبس وهو موضوع الجوع والفقر المدقع الذي يعيشه كثر في مصر، كما في غيرها من بلدان العالم الثالث على وجه الخصوص. وإذا كانت مناخات الكاتب وموضوعاته مستلة من واقع الريف المصري ومعاناته وعوالمه في معظم أعماله إلا انه حاول في روايته السابقة"دق الطبول"أن يكشف النقاب عن التركيبة الاجتماعية الفريدة والهشة لدولة يعمد حاكمها الى نقل سكانها الأصليين جميعاً، وعلى نفقة الدولة، إلى إحدى دول الغرب من اجل تشجيع فريقهم الوطني في لعبة كرة القدم. وهو ما أضفى على روايته تلك نكهة خاصة هي مزيج من الضحك والهجاء ومن الواقعية والسوريالية. وبمقدار ما تستند الرواية السابقة الى طزاجة الموضوع وبطولة الفكرة، فإن الرواية الأخيرة"جوع"تستند الى موضوع مكرر ومستهلك على رغم بعده الواقعي الذي لا جدال في وجوده في بلد يعاني تنامياً هائلاً في عدد سكانه كما في عدد فقرائه وجياعه. لهذا السبب بالذات تبدو مهمة محمد البساطي في عمله الجديد شديدة الصعوبة والتعقيد اذ انه يتصدى في هذه الحالة لما وجد فيه روائيون عالميون وعرب ضالتهم المنشودة وأشبعوه معالجة وتناولاً منذ"بؤساء"فيكتور هوغو مروراً برواية"الأم"لمكسيم غوركي وليس انتهاء برواية"الرغيف"لتوفيق يوسف عواد. والصعوبة الثانية التي تواجه الكاتب في هذا العمل تكمن في محاولته المضنية تجنّب المبالغة العاطفية والتوصيف الميلودرامي الذي وقع فيه معظم الذين تصدوا لواقع الفقراء المزري وبخاصة اولئك الذين وقعوا تحت تأثير الواقعية الاشتراكية في حقبتها السوفياتية الجدانوفية. بعد المدخل القصير الذي لا يتجاوز الصفحة الواحدة والذي يبرز تفاصيل المنزل البائس والمتصدع الذي يعيش فيه زغلول وسكينة وولداهما زاهر ورجب يعمل محمد البساطي على تقسيم روايته الى ثلاثة عناوين فرعية يحمل اولها اسم"الزوج"والآخر اسم"الزوجة"والثالث اسم"الابن". وعلى رغم ان كل عنوان من هذه العناوين يشكل المنظور الخاص بحامله إزاء تجربته الشخصية مع الجوع فإنها في المحصلة ليست سوى تفصيل بسيط او تنويع شكلي على جوهر المعاناة التي يعيشها الجميع. لا بل ان البساطي لا يسبغ على الشخص المعني بالعنوان صيغة ضمير المتكلم، كما يحدث في روايات مماثلة، بل يبقيه في نطاق الغائب محتفظاً لنفسه بزمام السرد ومكتفياً بإيراد بعض الأحداث التي تخص الشخص المعني. في الفصل الأول من الرواية القصيرة، 135 صفحة من القطع الوسط، والذي يحمل عنوان"الزوج"نعثر على شخصية زغلول الذي لا يكاد عمله المتقطع يقدم للعائلة ما تسد به الرمق. بحيث تلجأ زوجته سكينة الى اقتراض بعض أرغفة الخبز من جاراتها المتبرمات على رغم معرفتهن بأن شيئاً من خبزهن لن يضيع على الإطلاق. اما زغلول نفسه فهو يعمل في كل شيء، نادلاً في مقهى أو عتّالاً وفق الطلب في الأعراس والمآتم او خادماً في بيوت الأغنياء. لكنه اينما ذهب كان لديه إحساس عارم بالفضول والتنصت على الآخرين كما حدث له مع الطلاب الجامعيين الذين يتحدثون في السياسة تارة ويسردون مغامراتهم العاطفية والجنسية تارة أخرى. أو كما حدث له مع الشيخ رضوان الذي يدّعي العفة والذي عمد الى ضرب زغلول ضرباً مبرحاً بسبب تساؤلاته"الوقحة". وهو إذ يتعرف الى الثري العجوز وشبه المقعد الحاج عبدالرحيم يشعر ان القدر ابتسم له ولعائلته بفعل ما يحصل عليه من بقايا الطعام الدسم الذي يتناوله العجوز الموسر، إلا ان وفاة العجوز سرعان ما تعيده الى واقعه المأسوي. لا يختلف الأمر كثيراً في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان"الزوجة"التي تحاول من جهتها ان تجد حلاً لجوع الأسرة من طريق التقرب من"البيت الكبير"الذي يشغله رجل وامرأة عجوزان وثريان في الآن ذاته. وإذ تفشل الزوجة مرة بعد مرة تكتفي بدفع ابنها الصغير للتنقيب عما يمكن الإفادة منه بين أكياس النفايات التي تحملها الخادمتان الى الخارج. على ان وفاة"الست الكبيرة"أتاحت لسكينة وعائلتها الفرصة المواتية لخدمة زوجها العجوز، الأمر الذي مكّنها من الدخول الى المنزل الفخم وتحسس مقتنياته الثمينة قبل ان يموت العجوز بدوره وتعود العائلة الى مأساتها المزمنة. أما الفصل الثالث الذي يحمل عنوان"الابن"فهو لا يضيف شيئاً يذكر الى الفصلين السابقين سوى تعرّف الابن زاهر، ابن الثانية عشرة، الى عبده الفران الذي يتصدق عليه ببعض الأرغفة قبل ان يغادر بدوره الفرن تاركاً العائلة ايضاً الى قدرها المظلم. لا تخرج رواية محمد البساطي من دائرة الثنائيات الضدية المألوفة في روايات أخرى مماثلة حيث يتواجه الفقر والغنى في شكل سافر وجلي، كما تتواجه في الوقت ذاته القيم المتصلة بكل منهما. ففي حين ان الفقر الذي حرم عائلة زغلول من التعلم ودخول المدارس لم يحرمها من التضامن والتآزر في مواجهته نجد ان الثراء الذي اصابته عائلة البيت الكبير دفع بأفرادها الى التفكك الأسري والأنانية المسرفة بحيث لم تتورع ابنة"الست الكبيرة"المتوفاة عن محاولة التحرش بعشيقها في فترة تقبُّل العزاء بالذات. قد لا يكون من قبيل الصدفة المجردة ان يختار البساطي شخصيات أثريائه من العجائز الواقعين تحت وطأة الإعاقة والمرض، قبل وقوعهم أخيراً في وهدة الموت، بل يبدو الأمر وكأنه سخرية مبطنة من الحياة برمتها حيث الثروات لا تغني ولا تنفع وحيث الجميع آيلون الى مصائرهم الفاجعة والمشتركة. ومع ذلك، وعلى رغم الجهود المريرة التي بذلها البساطي لإخراج الموضوع من عاديته والرواية من رتابتها فإنني أميل الى الاعتقاد بأن العمل الأخير ليس أفضل ما قدمه البساطي خلال مسيرته الروائية اللافتة والمتنوعة.