أغضب مهرجان قرطاج المسرحيين التونسيين لأن دورته الحالية التي انطلقت في الرابع عشر من الشهر الجاري، لم تتضمن أي عرض مسرحي، على رغم العروض المميّزة التي ظهرت في الموسم الأخير على الخشبة التونسية، معيدة الجمهور إليها بعدما هجرها في السنوات الماضية. ولعلّ مسرحية"خمسون"التي كتبتها جليلة بكّار وأخرجها فاضل الجعايبي، والتي صفّق لها الجمهور الباريسي طويلاً على مسرح"الأوديون"حيث عرضت للمرّة الأولى بعدما مُنعت في بلدها الأم، كان يُفترض بحسب النقاد أن تُدرج ضمن برنامج المهرجان. وعلى الأرجح أن حساسية الموضوع الذي تطرقت له"خمسون"كان وراء استبعادها، إذ غاصت في ظاهرة الإرهاب الذي يتهدد مجتمعاتنا، من خلال مواجهة بين أم خمسينية تنتمي الى القيم الديموقراطية والعلمانية والتقدمية، وابنتها التي سافرت الى باريس للدراسة فعادت محجّبة و... اسلامية!. الأم وريثة الجمهورية العصرية التي بناها الحبيب بورقيبة، علماً أنها ذاقت طعم سجونها، هي وزوجها، كمناضلين يساريين. والابنة ليست سوى نتاج زمن الفوضى والانهيارات وفقدان اليقين، والخوف من الآخر، زمن الفساد والعجز السياسي والخيارات الراديكالية. لكن مدير المهرجان محمد رجاء فرحات عزا استبعاد المسرحيات إلى سبب إداري، كونه لم يتسلم إدارة المهرجان سوى في نيسان أبريل الماضي، ما جعل الفسحة الزمنية لا تتيح له برمجة مسرحيات، على ما قال. وعلى رغم الأعمال العربية والدولية عموماً المقررة في هذه الدورة مثل عرض فرقة الأوركسترا السمفونية الصقلية من إيطاليا وحفلات كاظم الساهر وحسين الجسمي وفضل شاكر وأمل حجازي وشيرين عبدالوهاب وماجد المهندس والمغربية كريمة الصقلي وسهرة الضحك المغربي مع جاد المالح، كانت طاغية على الإنتاج المحلي، فقد استأثرت العروض التونسية وخصوصاً في مجال الغناء والأفلام السينمائية ب 60 في المئة من فاعليات المهرجان على مدى 30 سهرة. وعزا المنظمون هذه النسبة المرتفعة إلى الرغبة"بتشجيع المنتوج الفني المحلي". انطلقت الدورة السبت الماضي، مع سهرة"أصوات تونس"التي شارك فيها مطربون وراقصون وشعراء. وتُختتم في 16 آب أغسطس المقبل بحفلة تونسية لأشهر الملحنين المحليين مع فرقة"الرشيدية"المتخصصة ب"المالوف"فن موسيقي أندلسي بقيادة زياد غرسة ومشاركة سونيا مبارك، ما يضفي على هذه الدورة تحديداً طابعاً محلياً"مُغرقاً"!. ولا تقف العروض التونسية عند المطربين والمطربات أمثال لطفي بوشناق وشكري بوزيان وسونيا مبارك وألفة بن رمضان ورياض الفهري، وإنما تشمل كذلك أصنافاً أخرى من الموسيقى على غرار الإنشاد الصوفي. وستكون السهرة المشتركة بين العراقي حسين الأعظمي والتونسي زياد غرسة، جسراً يربط بين الإنشاد المحلي وألوان الإنشاد المشرقي، تكريساً لانفتاح المهرجان على ألوان الموسيقى غير المألوفة. واللافت أن الشراكة بين المهرجان و"روتانا"ستستمر في قوة في هذه الدورة من خلال أربع سهرات مقررة للشهر المقبل، واحدة يحييها حسين الجسمي وأسماء منور، وأخرى نوال الزغبي وماجد المهندس وسهرة لشيرين عبدالوهاب وريان وسهرة لفضل شاكر وأمل حجازي. أما جديد هذه الدورة فيتمثل بندوات أبرزها عن"الصوت والصورة الرقمية في فنون الركح"التي سيشارك فيها نقاد ومسرحيون ومهندسون وباحثون من خلال محاضرات تعتمد على تجاربهم في هذا المجال. ومن الجديد أيضاً توزيع الفاعليات بحسب الأهمية على مدرجات المسرح الروماني وقصر"العبدلية"التاريخي في ضاحية المرسى القريبة من قرطاج. وحاولت الدورة الحالية الانفتاح على الموسيقى الشبابية من خلال العرض الذي تُقدمه مجموعة"رينيغاد"والمغنية دوبات في الثاني من الشهر المقبل، إلا أنها ستضع المهرجان على المحك لمناسبة العرض الذي ستقدمه الفرقة الموسيقية الأميركية"أوزوماتلي"Ozomatli الحاصلة على جائزة"غرامي"الشهيرة في اليوم نفسه. نافذة المغرب على المشرق شكل مهرجان قرطاج لدى انطلاقه في عام 1964 تجربة مميّزة في العالم العربي، استثمرت مدرجات المسرح الروماني التراثي في ضاحية قرطاج الذي بات يتسع لأكثر من 15 ألف متفرج بعد تهيئته. وتعاقب على الخشبة التي أُخضعت لعمليات تطوير وتوسعة كثيرة آخرها هذه السنة، أشهر نجوم الطرب العربي الذين شكل المهرجان إطاراً للقائهم المباشر مع جمهور المغرب العربي على مدى أربعة عقود، بدءاً من أم كلثوم وفيروز ووردة وصباح فخري ووديع الصافي ونجاة الصغيرة وانتهاء بمرسيل خليفة. ووضع آخرون أقدامهم في عالم الشهرة انطلاقاً من هذا المهرجان مثل ماجدة الرومي، فيما دخل نجوم عالميون إلى العالم العربي عبر جسر قرطاج أسوة بمريم ماكيبا وجيمس براون. بهذا المعنى حافظ مهرجان قرطاج الذي انطلق بمبادرة من وزير الثقافة الشاذلي القليبي، الذي تولى لاحقاً منصب الأمين العام للجامعة العربية 1979 - 1990، على مستوى فني جعل المشاركة في فاعلياته بوابة لتكريس صعود أي نجم أو نجمة في عالم الموسيقى العربية. لكن المهرجان أبصر انعطافاً في التسعينات مع التساهل الذي لوحظ إزاء الفن"الشعبي"والذي كان اقترابه من خشبة قرطاج أمراً لا يمكن تصوّره في العقود الماضية. وهكذا استطاع"فنانون شعبيون"أمثال هادي حبوبة وهادي دنيا وسمير الوصيف أن"يقتحموا"قرطاج وربما كان ذلك الانعطاف بداية أفول نجم المهرجان محلياً وعربياً.