نازك الملائكة ما أبهاك وأنتِ تُعتقين الموت بصبابات الربيع وتجلياته. حارقاً هو الموت ولكنه حين يدنو من نازك ينحني كأقواس قزح زخرفتها غيومٌ مهاجرة نحو السكب الأبدي. مولاتي أميرة الشعر، انهُ الموت قد تسامى كي يُعانق روحك الوثابة, وحتى رجفةِ لوعاتهِ لها نكهة ارتعاشات إنشادكِ الأسطوري. لكنهُ لن يُطفئَ في ضمائرنا تلك الافتجاءات الخلاقة، تلك المنعطفات الثقافية التي أفضت الى تضاريسكِ الشعرية الشاهقة. أطلت فجأة لتنفي رتابة الإيقاع, وتُلغي تواتر البحور الراكدة ونمطيتها التي ورثناها من حداء الإبل تسبرُ غور المجهول وتسخرُ من امتداد الصحراء. كأن مذاهبك الشعرية زوابع ابداع أثارت أمواجاً ودمدمات في أعماق بحور الشعر... لتعزفَ أنغاماً تتناغم مع إيقاعات الحياة المُتجددة. تتفتحُ الآهات كبيلسانات الجدب، ويعرشُ الفقد حتى رحيق الروح. نازك أيتها القيثارة البابلية التي عزفت فأسكرتنا نجواها، وحين صحونا هممنا بتقطيع أوتارها تيمناً بوصية الأجداد للأحفاد. حواء التي طردتنا من السماء لا تصلحُ إلا للإغواء. انه خللٌ في نواميس الكون أن تصبح يوماً أميرة للشعراء. فكل زرقاء منذ داحس والغبراء تقضي فحولتنا أن تعيش وحيدة عمياء وكذا مصيرُ من تُحدقُ أبعد من فتنتها، من رمش عينيها... لا شجر يسيرُ نحونا، ولا سفناً مسمومة في الميناء. ها هي بغداد يا مولاتي تبكيك، فقد وحَّد موتك ملح دموع المظلومين. توحدت المذاهب على وداعك ونسوا لسويعاتٍ ما بينهم من بحور دماء. ها هم يلتقون في ومضة خالدة... لله درك كيف يصمتُ القتلُ في بغداد حتى توارين الثرى. ما أبهاكِ بحضرة موتكِ تهطلُ العيون المفزوعة من لغة الفأس والمنجل والساطور ولهُنيهاتٍ تقتحم الحياة روعة حضورك الطاغي. بهذا الألق، الروحي بهذه الوساطة الملائكية، نسي التعساء لغة الذبح التي حملتها لهم السفن المسمومة. العراق يتذكركِ اليوم يا مولاتي؟ دجلة يبكي ويستجدي عُشب شواطئه كي يستحضر لمسات أناملك الحريرية. البصرة تتكئ على جراحها وكل ذرة غبارٍ كحّلتِِِ بِها عينيكِ تتشهى عبقك. ودجلة صارت كل قطرة من مائه هدهدتها راحتاكِ دواءً لدائنا الذي لا يُداوى. كل غصنٍ علق بخصلات شعرك هو مراود كحلٍ لرمد العراقيين. كل خطوة على الشطآن زخارف أقدامٍ بابليةٍ. مزقٌ من متاحف عصية على النهب والسلب. فكيفَ اكتشفتِ إذاً أن طمي النيل أكثر حناناً من صلصال دجلة. معادلة حارقة أن تحار روحك بين بابل وباب زويلة، فلماذا؟؟.. ألأنك كتبت في وصيتك لن أعود الى بغداد حتى تتعانق المآذن والشوارع والأسماء والأئمة والقضاة... عمَّ أُحدثكُ يا مولاتي؟ عن بغداد؟ لقد نهبوا المتاحف والمصاحف. سرقوا شريعة حمورابي ومخطوطات مكتبة"دار الحكمة". سرقوا المتنبي وابن المقفع وأبا نؤاس. السياسيون يتباكون لينقلوا جثمانك. السياسيون كسائس خيل المتنبي وغلامه الذي أودى بهِ يتمنون أن يخلَّدوا بك. أمضيت أعواماً في العزلة في المنفى في الغربة. أليس غريباً ألاّ يتذكروك إلا اليوم! عمَّ أُحدثكِ يا سيدة الشعر؟ عن الكرخ، عن كربلاء، عن دجلة، عن الفرات أم عن الطغاة؟ أودعناك النيل الحنون لن تعودي وبغداد تسكنها المنون ولا متنبي يُنشدُ من يهن يسهل الهوان عليهِ... من أين آتيك بمتنبي العصر, وجميع الشعراء الذين يرثونكِ اليوم كانوا في الأمس على مرمى حجر من منفاك يتبادلون الأنخاب والنياشين والجوائز في مهرجان الشعر. لم يتذكركِ أحد منهم وكُلهم قد تخرجوا في مدارس الإبداع الفطري ونسوا أن من أشادها تفعيلةً تفعيلةً هو على مرمى قافيتين من قلاعهم الشعرية. تركوكِ تقبعين في النسيان والنسيان أشد فتكاً من الفقدان. أيها النيل رفرف بصفائك ولتكن أمواجك تنهدات حنانٍ للأميرة شهرزاد التي فرّت من"ألف ليلة وليلة"ومن سيف شهريار, وشهريار شاعر يتحنى، شاعر يتغنى، شاعرٌ يتمنى... يا نيلُ هدهدها بعذوبتك كي تنام فلم تذق طعم الحنان منذ أعوام. أنشدي لهُ يا مولاتي قصيدتك الرائعة: "سيسألنا الله يوماً فماذا نقول:/ نعم قد منحنا الذرى والسواقي/ ومجد التلول/ ولكننا لم نصنها، ولم ندفع الريح والموت عنها/". واليوم عمَّ أُحدثك؟ عن بغداد يا أميرة شعرها ونجواها؟ بغدادُ بلواها أن حامي حماها يصرخ أن الجزيرة الخضراء تكفيني ويبيع نخلها ونفطها وأبا نؤاسها، وبغداد بلواها أن حاضرها توأم أمسها. المهندس عدنان شعبان دير الزور - بريد الكتروني