الطريق الى مدينة ليدبوري البريطانية طويلة ولكن غير متعرّجة. على الجانبين تترامى حقول وغابات تبدو كأنها تحافظ على"عذريتها"على رغم بعض البيوت ذات السقوف القرميد التي تقبع وسطها، ولكن من غير أن تؤذي المشهد البديع الذي لا ينتهي، ما دامت السيارة تنتهب الطريق العريضة. ثلاث ساعات وربما أقل قليلاً انطلاقاً من لندن في سيارة يابانية تقودها مارغريت أوبانك ناشرة مجلة"بانيبال"، بسرعة حيناً وتؤدة حيناً آخر. وكان لا بد من أن نتوقف عند إحدى الاستراحات لنتناول القهوة وسواها ولننطلق من جديد. اللبناني الذي طالما تغنى بخضرة لبنان متباهياً يصاب بالدهشة أمام المناظر الخضراء المتواصلة والساطعة بصفائها، وقد يرد في خاطره أن وطنه الأخضر ليس سوى أكذوبة لا سيما بعدما انتهكت الطبيعة وانحسرت الغابات وغابت الحدائق. هذا ما خطر في بالي وأنا أنظر من وراء الزجاج، يميناً وشمالاً. ولكن لا بأس."ثلاثة شعراء لبنانيين"هو عنوان الأمسية الشعرية التي سيحييها بسام حجار وزينب عساف وكاتب هذه السطور في مدينة ليدبوري في مقاطعة هيرفوردشير التي تقع في غرب بريطانيا. والأمسية هي واحدة من أمسيات مهرجان لديبوري الشعري وتظاهراته التي تقارب السبعين. وقد نظمها المهرجان في اقتراح من مجلة"بانيبال"ومشاركتها مع مؤسسة"أدب عبر الحدود"وغاليري"زانادو"في بيروت ونيويورك والمجلس الثقافي البريطاني. ومعروف أن معظم المهرجانات الشعرية في الغرب تقام بدعم من مؤسسات صغيرة من هنا وهناك. مهرجان ليدبوري هو من أهم المهرجانات الشعرية في بريطانيا. ودورته هذه هي الحادية عشرة في مفكرته. وهو غالباً ما يستضيف شعراء معروفين في بريطانيا وويلز وإيرلندا واسكوتلندا. وعلى جدارية المركز الإداري للمهرجان وهو يُسمّى مركز"الاستضافة"، يمكن الزائر مشاهدة صور شعراء وشاعرات مهمين مثل: سايمون ارميتاج، جيمس فينتون، بات بوران، توم بولين، هيلين دانمور، جيري هول الزوجة السابقة لمايك جاغر، بيتر بورتر والصيني ليو هونغبن وبي جاي كافاناه وسواهم... نصل مدينة أو بلدة ليدبوري وقد تغيّب الشاعر بسام حجار قسراً مع أنه أرسل"شهادته"وقصائده التي قرأها بدلاً منه صموئيل شمعون صاحب رواية"عراقي في باريس"التي تصدر قريباً بالترجمة السويدية. مديرة المهرجان سيدة لطيفة جداً ومتواضعة جداً اسمها كلويه غارنر، رحبت بنا بحرارة ثم تولت مارغريت أوبانك التفاصيل الأخرى. وبما أن البلدة يسميها البعض قرية - خالية من الفنادق درج المهرجان على"إنزال"ضيوفه في بيوت مواطنين يفتحون أبوابهم لهم بترحاب كبير وسرور. والبيوت هي فيلات بديعة تحيط بها الحدائق وتغرق في هدوء لا تعكّره إلا زقزقة العصافير التي تحط على النوافذ. هكذا توزعنا على هؤلاء المواطنين المتحمسين للشعر والموسيقى وسائر الفنون، ومعظمهم من الأثرياء المتقاعدين الذين يقطنون هذه البلدة لقضاء حياة ملؤها السكينة والراحة والطمأنينة. لكن بعض العائلات تعيش مع أبنائها الذين يدرسون هناك أو يعملون. ولئن كان مهرجان ليدبوري يستضيف الشعراء الجدد والشباب الذين يحتلون المشهد الشعري الانكليزي فهو يصرّ أيضاً على إحياء الذاكرة الشعرية البريطانية. هذه السنة احتفل المهرجان بمئوية ولادة الشاعر البريطاني الكبير و. ه. أودن الذي ولد عام 1907 في مدينة يورك وتوفي في فيينا عام 1973. شهد أودن الحربين العالميتين وصعود النازية والفاشية وسقوطهما وتنقل بين بريطانياوألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، وحصل على الجنسية الأميركية من غير أن يصبح أميركياً على رغم أدائه الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الأميركي. وخلال الحرب الثانية وجد نفسه جندياً في ألمانيا يواجه العسكر النازي. واحتفال ليدبوري بمئوية ولادة أودن يتميز بطابع خاص. فالشاعر الذي سكن فترة بالقرب من ليدبوري عقد قرانه الشهير بابنة الروائي الألماني توماس مان وإسمها إريكا في المدينة نفسها. وكان علينا أن نزور القاعة الصغيرة التابعة للبلدية التي وقف فيها أودن مع إريكا أمام القاضي وأقسما على الارتباط الزوجي. لكن ذلك الزواج الذي تم عام 1935 كان شكلياً والغاية منه توفير جواز سفر بريطاني لها كي تتمكن من الهروب من ألمانيا النازية. فهما لم يعيشا معاً ولم يضطرا حتى الى الطلاق، فهي كما أشيع عنها كانت ذات نزعة سحاقية. إلا أن ليدبوري جذبت شعراء كثيرين في مطلع القرن الشعرين، منهم جون ماسفيلد واليزابيث باريت براونينغ. وإضافة الى إحياء ذكرى أودن احتفل المهرجان هذه السنة أيضاً بالشعراء: وليام بلايك، كولريدج وشيموس هيني وقدم قراءات من أ"مالهم الشعرية. وأقام المهرجان أيضاً محترفاً للشعر الياباني وقصيدة"الهايكو"... عطفاً على أمسية غنائية ? شعرية روسية أحيتها المغنية الروسية الشهيرة يلينا وقد عزفت على الغيتار، فيما رافقها عازف على البيانو والأكورديون. والأمسية هذه كانت"ليركية"بامتياز، فالمغنية ذات الصوت المتين والرقيق، أدّت قصائد لشعراء روس من أمثال: بوشكين وآنا أخماتوفا وباسترناك ومارينا تسيفتيفا وأوسيب مندلشتام وجوزف برودسكي. وكانت الأمسية بعنوان"العودة الى البيت"وفيها امتزج الشعر بالغناء والموسيقى، وحلّقت المغنية بالقصائد تحليقاً موقظة فيها ظلالاً وألواناً من الحنين والعذوبة والسحر. ومع أن معظم الجمهور لا يجيد الروسية فهو تفاعل معها وعاش تلك اللحظات الغنائية العالية. الأمسية الشعرية اللبنانية التي أشرفت على تنظيمها مارغريت أوبانك نجحت في جذب جمهور تدفق للاستماع الى شعراء لا يعرف عنهم سوى ما كتب في كراس المهرجان. الدخول لم يكن مجاناً والبطاقة ثمنها ثمانية جنيهات استرلينية ما يعادل ثمانية دولارات لكن الصالة امتلأت بجمهور من أعمار مختلفة. وقد يسأل الشاعر اللبناني نفسه: هل يمكن أن يدفع هؤلاء الناس ثمن بطاقة ليستمعوا الى شعراء لا يعرفونهم؟ قدمت مارغريت الأمسية والشعراء وتحدثت عن الشعر اللبناني الحديث وأرفقت كلامها بعرض ضوئيات سلايدات تضم نصوصاً وصوراً للشعراء الرواد مثل يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وفؤاد رفقه وشوقي أبي شقرا وخليل حاوي وسمّت الأمسية"من لبنان الى ليدبوري". القراءة الأولى كانت مع شعر بسام حجار وقد تلا صموئيل شمعون مقاطع من ديوانه الجديد"تأويل الرخام"، وقرأ المقاطع نفسها بالإنكليزية الشاعر البريطاني ستيفان واتس. ثم قرأت الشاعرة الشابة زينب عساف مقاطع من قصيدتها الطويلة"صلاة الغائب"ورافقتها مارغريت قارئة المقاطع بالانكليزية. ثم أعقبها كاتب هذه السطور فقرأ مختارات من ديوانيه"سراج الفتنة"وپ"نار العودة"، وقرأ القصائد بالإنكليزية الكاتب البريطاني توري مونث. وهذا الكاتب كان أشبه بالمفاجأة، فهو عاش في لبنان والعراق فترة ويجيد العربية ووضع كتاباً مهماً عن الحرب العراقية. اللافت جداً في هذه الأمسية هو إصغاء الجمهور الى الأصوات باللغتين العربية والانكليزية. كان بعض الحاضرين يغمضون أعينهم متابعين القصائد بإيقاعاتها وموسيقاها الداخلية. وعبّر الكثيرون عن فرحهم باللغة العربية التي وصفوها باللغة الموسيقية ولمسوا أثر الجرح الذي زرعته المأساة اللبنانية في القصائد. وفي الختام دار نقاش بين الشعراء والجمهور وسألوا عن الازدواجية بين العامية والفصحى، وعن الحداثة وعن المرأة اللبنانية، لا سيما بعدما استمعوا الى زينب عساف تحدثهم عن الفتاة المحجبة في"الكانتون"الشيعي كما ورد في قصيدتها الجميلة والجريئة. وفي الختام أقبل الكثيرون على شراء العدد الأخير من مجلة"بانيبال"الخاص بالشعر اللبناني الجديد وطلبوا التواقيع بالعربية. بدت الأمسية شديدة اللطافة وكان لها وقعها لدى الجمهور الذي جاء ليصغي فعلاً الى أصوات آتية من بلاد يعرفونها ولا يعرفونها. ليدبوري هي بحق مدينة الشعر أياً كان. بيوتها الجميلة المبنية بالخشب تتوزع في شكل هندسي بديع. بعضها مطلي بالأبيض والأسود وبعضها مبني بالحجر ومزين بالقرميد الأحمر. ومعظم البيوت قديمة ومنها ما يعود الى القرن السادس عشر. أزقة ضيقة لا تدخلها السيارات، تذرعها الخطى بإيقاعها المتهادي، وعلى الجانبين وفي الزوايا ترتمي الأزهار والورود والنبتات الجميلة ببهجة جاعلة تلك الأزقة حدائق غناء. وعندما يهبّ الهواء، عليلاً أو بارداً، يحمل الى المتنزهين روائح الشجر والتراب. إنها ليدبوري مدينة الشعر والعطور. وفي المناسبة شاءت أسرة مجلة"بانيبال"أن تحيي أمسية ثانية للشعراء اللبنانيين ولكن في لندن. واستضاف الأمسية"المركز الثقافي الفرنسي"وقرئت القصائد نفسها بالعربية والانكليزية، وحلّ محل الكاتب توري مونث الشاعر البريطاني جون بول أونيل وهو صاحب موقع الكتروني شعري شعبي جداً. والجو كان حميماً جداً وامتلأت الصالة بجمهور بريطاني في غالبه، إضافة الى بضعة أشخاص عرب. وأصغى الجمهور بملء مسامعه الى القصائد بالعربية وبترجماتها الانكليزية وصفق بحرارة. وأعقب القراءات حوار وأسئلة طرحها الجمهور ودارت حول الشعر اللبناني والثقافة اللبنانية.