"سمعت أن هناك كلاماً متداولاً حول وضع آليات لمعالجة موضوع مخيم نهر البارد. في اللحظة التي نقع في الفخ لوضع آليات نكون قد استسلمنا كدولة لهذه المجموعة الارهابية أي تنظيم فتح الإسلام. انني أرفض الآليات. لا بد من الحسم السياسي والعسكري وهنا الكلام موجه الى منظمة التحرير بجوانبها المختلفة،"حماس"و"فتح". اما أن نستأصل الارهاب من نهر البارد أو على الدولة أن تستأصل الارهاب .... في اللحظة التي نقبل فيها بالتسوية تزول الدولة". هذه العبارات مأخوذة من تصريخ مختصر أدلى به أحد أبرز قادة قوى 14 آذار في لبنان، وهو الزعيم السياسي وليد جبنلاط، وذلك في أعقاب زيارة قام بها لقيادة قوى الأمن الداخلي قبل ظهر يوم الخميس الواقع في 24 أيار مايو بحسب صحيفة"النهار"اللبنانية الصادرة يوم الجمعة التالي في 25 أيار. بعد ثلاثة أيام على صدور هذا الموقف الداعي الى الحسم العسكري، عقد الزعيم السياسي نفسه، وهو بالتأكيد من أمهر اللاعبين اللبنانيين، مؤتمراً صحافياً كرّس معظمه للرد السجالي على خطاب السيد حسن نصر الله متهماً إياه بالمساواة بين القتلة وبين شهداء الجيش اللبناني. على أنه في غمرة بلاغته الانتقادية، شدد بحسب جريدة"الحياة"الصادرة في 28 يار على ان"لا أحد طرح الحسم العسكري كذا، بل نريد تسليم القتلة الى العدالة اللبنانية". وهذا الموقف يتطابق حرفياً مع الموقف الذي أعلنه السيد نصر الله، أي محاكمة القتلة محاكمة قانونية وتفادياً لمواجهة واقتحام لمخيم فلسطيني يضم عدداً كبيراً من المدنيين، حتى بعد نزوع قسم لا بأس به من أهالي مخيم نهر البارد. هذه الموازنة، أو المقابلة إذا شئنا، بين موقفين مختلفين أو بفاصل زمني قصير جداً، لمسؤول سياسي لبناني، لا ترمي الى التشهير السجالي بسلوك متناقض ومضطرب. فالعثور على تناقضات من هذا النوع أمر سهل، وهو يطاول جميع اللاعبين اللبنانيين تقريباً، ان لم يكن التسلي به قد أصبح رياضة إعلامية وبلاغية يومية في البلد الصغير ذي اللحمة الوطنية الهشة. وهشاشة الفكرة الوطنية اللبنانية لا تعود الى انقسام اللبنانيين بين جماعتين واحدة تريد الدولة وأخرى لا تريدها، كما يحلو للبعض أن يختزل الأمور. بل تعود بالدرجة الأولى الى صراع الجماعات اللبنانية على الدولة نفسها، باعتباره صراعاً على التحكم بتوزيع الثروة والمصالح والوظيفة الاقليمية وشبكة العلاقات الدولية، أي ما يمنح الدولة صفة السيادة السياسية بامتياز. حتى لو شئنا قصر معنى الدولة ووظيفتها على التعريف التقني والاجرائي لها، فإن هذا لا يغير كثيراً في لعبة الصراع الطوائفي على الدولة. والمواجهات الأخيرة بين قوات الجيش اللبناني ومجموعات تنظيم"فتح الاسلام"السلفي الجهادي المتمركزة في مخيم نهر البارد، انما هي اختبار اضافي لطرائق في تعاطي الجماعات اللبنانية مع موضوع شائك وحساس، لأنه يطاول بمفاعيله المحتملة مسألة لا يستهان بخطورتها وهي الوجود الفلسطيني في لبنان ومستقبل العلاقات بين الفلسطينيين وبين الدولة والمجتمع اللبنانيين. فلنحاول ادخال شيء من السوسيولوجيا الى ترسيمة السجالات اللبنانية حول المواجهات الأخيرة. هناك، اولاً، ما يشبه الاجماع على ادانة الجريمة التي ارتكبها أفراد من تنظيم"فتح الاسلام"بحق الجيش اللبناني وبحق البلد ككل. عل أن هذا الاجماع ما يزال دون البلورة السياسية لتصور وطني مشترك، ناهيك عن عدم تبلور صحوة حيال أبعاد ومخاطر ما يمثله التنظيم الأصولي الغامض، تكويناً واستخداماً وعلاقات في البيئة الفلسطينية - اللبنانية. ذلك ان الأطراف اللبنانية المتنازعة تواصل ما أحسنت على الدوام استخدامه: تسويق الحدث وتجييره وفق منطق تصفية الحسابات الداخلية. ومع أن مؤشرات كثيرة ظهرت في الأيام الأخيرة للتدليل على قلة التمثيل الفلسطيني للتنظيم المذكور، وعلى وجود ارتباط ما بينه وبين تنظيم"القاعدة"السديمي، وهو ارتباط تفصح عنه نسبة الجهاديين الاسلاميين من جنسيات مختلفة في صفوفه، فإن التعاطي مع هذه الظاهرة ما يزال قصير النظر. فلنسارع الى القول ان اللبنانيين وبلدهم باتوا على تماس اختباري مباشر مع مجموعات تشترك مع تنظيم"القاعدة"في نقطة سوسيولوجية على الأقل، وهي عدم تشكله في نسيج اجتماعي ووطني واضح، بل حتى يمكن القول إن وجهه العولمي الجهادي والاسلامي يقوم على تقويض الأنسجة الاجتماعية والوطنية في كل بلد عربي واسلامي بدعوى محاربة الصليبيين والكفار باسم أمة عالمية متخيلة ومفترضة. يمكننا أن نتفهم اصرار زعيم لبناني على وجود دور سوري في ما يحصل، على أنه من الصعب ان نذهب بعيداً في هذا التفهم بسبب الكثير من علامات الاستفهام والنقاط الغامضة المحيطة بظاهرة"فتح الاسلام"التي رأت النور، بحسب التقارير الصحافية، قبل سبعة أشهر، أي بعد سنة ونصف السنة على خروج القوات السورية وتسلّم قوى 14 آذار مهمات الحكومة والسلطة التنفيذية. ففي مؤتمره الصحافي المطول نسبياً رأى الزعيم وليد جنبلاط أنه عندما لا تدان"فتح الاسلام"وتسوّق على أنها"قاعدة"تجنباً لكشف مصدر التسليح والتدريب السوري على حساب كرامة الجيش وشرفه، فهذا يشكل ادانة لهم"أي المعارضة عموماً وحزب الله خصوصاً، على ما يفهم من سياق التصريح. ما ينبغي قوله، ها هنا هو أن جسم النظام السوري"لبّيس"كما يقال بالمحلية اللبنانية. بل حتى يمكن أن نصدق ضلوع هذا النظام في أي شيء، بما في ذلك الاشتباكات الأخيرة في... كراتشي الباكستانية. على أن الارتكان إلى تعليل هجاسي من هذا النوع لا يفيد كثيراً في فهم الظاهرة الجهادية، بل يخشى أن ندفع ثمن التأخر عن فهمها بغية معالجتها كمشكلة طارئة. ليس مستبعداً، في المقابل، أن يكون هناك دور وحصة سوريان في معارك نهر البارد. فلنقل، وإن بشيء من التبسيط، ان"القاعدة"هو الاسم المعطى لشركة متعددة الجنسيات ولها فروع منتشرة من المحيط الى الخليج وتتغذى كلها من اقتصاد قيامي وخلاصي يستند الى"خصخصة"متوحشة للإسلام وللهوية الدينية الإسلامية. لماذا يكون لبنان معصوماً عن مثل هذه الخصخصة، أي عن مفاعيل هذه العولمة الإسلامية التحتية التي تجد لانتشارها تربة خصبة في بيئات الفقر والهامشية والدونية الاجتماعية والثقافية. قد يكون مفيداً أحياناً أن نطرح الأمور التي تبدو بسيطة، خصوصاً عندما نكون حيال شرنقة عالمية غامضة المداخل والمخارج الأمنية والاستخباراتية، كما هي حال تنظيم"القاعدة"وتناسل المجموعات السلفية الجهادية في كل البلدان العربية والإسلامية تقريباً. لنقل مثلاً إنه لم يكن هناك أي وجود فعلي ل"القاعدة"في عراق صدام حسين، وبعد سقوطه أصبح العراق المحتل بأكثر من مئتي ألف جندي أميركي ودولي، مرتعاً للجهاديين القادمين من كل حدب وصوب. إن"أبلسة"نظام صدام حسين هي التي أجازت الاسقاط الإعلامي غير المسبوق لأكاذيب وتلفيقات هائلة. و"الأبلسة"هي التي قادت الى عماء سياسي مسكون بالثأر. لقد حرمنا بالفعل من المحاكمة السياسية والقانونية العقلانية لنظام استبدادي بحيث يمكن أن تكون هذه المحاكمة ركناً في سيرورة بناء وطني متوازن ومستقل. يعيش لبنان اليوم شيئاً من هذا القبيل. وإذا كان احتكام الجماعات اللبنانية إلى ضوابط مدنية وسياسية ينجينا من الانفجار، فإن اللجوء إلى"الأبلسة"من شأنه أن يجعل نهر البارد قنبلة ساخنة تنفجر في وجوهنا.