في السابق، افترضت التقاليد المعمارية والهندسية نماذج بناء متشابهة ومنمطة. وقبل حقبة ما يسمى بپ"الحداثة"، امتثل المهندسون لأساليب بناء تقليدية ومتعارف عليها. واليوم، نختبر أزمة متواصلة ومستدامة، أزمة الاحتمالات اللامتناهية. فالهندسة الحديثة حررت المهندسين من المعايير الهندسية التقليدية ومرجعياتها، وبات كل شيء ممكناً. والهندسة المعمارية تعنى بتفاصيل مادية. فكل مشروع بناء ظروفه فريدة. والمهندس المعماري مدعو الى مراعاة وجهة استخدام المبنى، وموقع البناء ونسيج وسطه الاجتماعي والمديني، وتكلفة البناء، ونوع التربة ووقت مباشرة البناء والمناخ. وتسنى لي إنجاز مشاريع كبيرة في الستينات. فالشركات منحت أبناء جيلي فرصة المشاركة في مباريات تصاميم هندسية، وأتاحت لهم، تالياً، فرصة التنافس مع من هم أكبر سناً منهم وأكثر خبرة. وصغت نظرتي الشخصية الى الحيز المكاني والفكرة البنّاءة. وأسهمت في صقل نظرتي هذه تساؤلاتي حول المدينة والبناء والعمران، بعد حوادث أيار مايو 1968، في فرنسا. فملت الى كسر التقاليد السائدة، والتخلّص من نماذج البناء المسطحة والجاهزة للاستعمال. ففضلت تصميم أشكال معمارية فريدة تراعي محيطها وموقعها. وترتّب على نهجي هذا التكيّف مع الأمكنة المشيّدة والقائمة. فهذه الامكنة هي بيئة أو"حضن"حيز مكاني جديد. وبعد البحث في فكرة المدينة والمسألة العمرانية، خلصت الى ان مفهوم الفضاء المكاني ضعيف الصلة بنظريات منفكة من الواقع. وشاركت في أبحاث في العلوم الإنسانية وتابعت دراسات، وقرأت عن حياة سكان المدن اليومية. وفهمت علاقة الناس بعمرانهم، وخوف بعضهم من الأمكنة الضيقة، وصلة بعضهم الآخر بالفراغ المكاني، ودور مدخل المنزل، ومدخل الدرَج، وأثر الضوء في نفوس قاطني المبنى أو العاملين فيه. ولا يجوز الاستخفاف بمفهوم الفضاء المكاني، وربط تشييد الأمكنة بإملاءات تجارية. وفي تجربتي المعمارية، أنزلت العلاقة بين الجسد والفضاء، وبين العيش والمسافة منزلة الأولوية، وقدمتها على تشييد المكان والاهتمام بالألوان والأشكال. واليوم، ثمة نازع هندسي الى التفرد، والى بناء أمكنة لا مثيل لها. وتلتقي، في شارع واحد، أشكال معمارية غير متشابهة. والمهن، على أنواعها، تشرع نافذة الابتكار على العالم. والبناء أمر عرَضي، ومختبر شيّق، ومدرسة للاختبار. ومهنة المعمار تقتصر على انتخاب موقع، وتصوّر مشروع في ثلاثة أيام، والبحث عن مساهمين ومعلنين، ثم تنفيذ المشروع في أسرع وقت ممكن، فالانسحاب. عن كريستيان دو بورزامبارك، "لوموند" الفرنسية، 17-18/6/2007