الهندسة المعمارية هي المكافئ الاصطناعي للطبيعة. وهي تعمل على الكشف عن العالم كشفاً صادقاً وأميناً، وقاسياً في بعض الاوقات. وهذا الحوار غير المنقطع بين الانسان وبين عالمه وبيئته هو ما يحدو اهتمامنا بالهندسة المعمارية ويغذيه. ولست أرى الهندسة المعمارية فكراً إلا في اطار ادراك الشرط العمراني بأبعاده كلها. فكل عمران يفترض رؤية للمدينة تتخطى المبنى القائم. وفي كل ظرف، تفترض الهندسة المعمارية مثالاً مضمراً أو نموذجاً لعمران اجتماعي. وتصورها على خلاف هذه الحال ينتقص من أبعادها الاجتماعية والتاريخية والثقافية. وأنا ارى المدينة ركاماً عظيماً من الابنية والشبكات والطرقات السريعة والسيارات والمخازن ومكبّات التصريف، وعلباً ضخمة أو أماكن للتجارة والترفيه. وهذه المدينة انما هي في حال من التحول الدائب والقلق والمستشرف، وعليها معالجة تحدٍ كبير آتٍ هو توسعها. فهي عليها ان تضم في كنفها العالمي 3 ملايين نسمة العام القادم، وهذا الرقم هو مجموع سكان المدن في العالم، أي نصف سكان العالم، ونحو 5 بلايين في 2030. وتنشأ ازمة عن تعاظم كتلة السكان، على مر الزمن، واختلال حاد في ميزان الأمكنة وتوزيعها. وهي ازمة الحياة نفسها في المدينة المعاصرة. وهذه أمست لازمة في تعريف الحداثة، على النحو الذي ارتسمت عليه، منذ 1925، عن يد المعمار لو كوربوزييه، وكان ارتسامها ابتداء مغامرته الفكرية. وليست ثمة حقيقة واحدة في الهندسة المعمارية. ويكفي، اليوم، ان ننظر الى المخططات المقترحة، على مسابقة في هذا الحقل. فالظاهر هو أن الشبه بين. هذه المخططات ضعيف. والاجابات الجيدة كثيرة على مسألة واحدة. ود تتصور الحقيقة في طيات الريبة التي تحوط كل مشروع هندسي. فالمسؤولية على عاتق المهندس المعمار، كبيرة، وتنبع من التزامات مدنية وسياسية، ومن شغفه في الابداع والحياة والمدينة والجمال. وبات اصحاب المخططات يعتبرون المهندس المعمار ضامناً لهذه المسؤولية المدنية. وفي عصرنا، عصر الحداثة الجديدة، لم يبق ثمة مبدأ مشترك، ولا اصطلاحات، ولا نهج أو اسلوب واحد يطبع حقبة معينة بطابعه، مثلما كانت الحال في بداية حداثة القرن العشرين. وفي عصر التقنية، صار"صانع المبنى"، في كل انحاء الارض، حراً في تجسيد فكرته، أو ولعه أو نبوغه أو جهله. فلا يعول إلا على مجموعة من القوانين والنظم. فلا مثال ثابت أو سلطة مقررة الحسبة على هذا الهذيان، على رغم تعرض أي مشروع لمساءلات لا تحصى، وتفضي في بعض الاحيان الى رفض من أوصوا به وطلبوه، والى اعتراض. ولا ننسى كمون أزمة في الفضاء أو الحيز البشري نفسه والكلام على هذه الازمة، بعد حوادث تشرين الاول نوفمبر الماضي - في ضواحي المدن الفرنسية - يدعونا الى التفكير في مخاطرها. ولعله يذكّرنا بأن هذه الازمة لا تتصل بالفضاء أو المكان وحده. فالفضاء قرينة على ما يمثل أمامنا وفي حضورنا، وهو المكان الظاهر الذي يعبّر تعبيراً صارخاً وحاداً. وهذه الازمة المتقلبة والمنتقلة من طور الى طور تعرف ظرفنا الحداثي. والنمو المتسارع للمدن الكبرى، كتلك التي تنشأ في الصين، والخطر الذي يتهدد المناخ والمياه، تمثيل عليها، ومصدق لها. العمارة منازعة مزمنة ومقيمة على حد يترنح بين العقل والذوق، وبين الشغف بالذات والمقدس. والجمالية المعمارية هي، اليوم واكثر من أي وقت مضى، محصلة النزاع بين رغبتين: تلك التي تلوذ بصور الماضي، وتنتشر اكثر فأكثر، وتلك التي حافظت على الهندسة المعمارية، على مر الزمن ومحضتها معنى، لأن بشراً يتوقعون منها انجازاً مهماً. وعليه، ينبغي ربما للهندسة المعمارية ان تبني فضاءات فرحة وسعيدة. وما ينتظر منها، ويلح عليها فيه، هو مصدر المعنى، أي ما يشق للزمن طريقاً وينشئ أفقاً، فلا ينكفئ ولا يقسر الناس على ما لا طاقه لهم. عن كريستيان بورتزامبارك مهندس معمار، وأستاذ كرسي"الابداع الفني"في"كولاج دو فرانس""لوموند"الفرنسية، 4/2/2006