قبل أن ينهي مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية اجتماعه، كان إطلاق النار على المبادرة الفرنسية قد اخذ فعله على الساحة اللبنانية، وبدت وقائع السياسة كما الأمن مكشوفة على مصراعيها، فأتت مقررات وزراء الخارجية العرب كمن يحاول إنقاذ الغريق بعد وفاته، فما الجديد في الوساطة وما هي شروط نجاحها؟ متغيرات كثيرة حصلت في لبنان ربما تغيّر من طبيعة الدور والمواضيع وحتى النتائج وان كانت معروفة سلفاً. فالمحكمة الخاصة بلبنان أقرت وبالتالي المقايضة بين الحكومة والمحكمة التي مشى فيها الأمين العام عمرو موسى سابقاً لم تعد موجودة عملياً. كما أن صيغة الثلث المعطل لم تعد واردة بفعل تخطي الزمن لهذا المطلب من المعارضة والموالاة، وبدأ الحديث يتجه لناحية انتخابات الرئاسة، الأمر الذي سيزيد موضوعات المبادرة والوساطة تعقيداً. والجديد الآخر، هو انتقال المبادرة عملياً من مستوى الجامعة نفسها، إلى مستوى أرقى ديبلوماسياً وسياسياً بعد ضمّ السعودية ومصر وقطر وتونس إلى الجهود المعلقة عليها الآمال، وبالتالي تشعب وتنوع الرؤى في وقت ما زالت سياسة المحاور العربية تفعل فعلها في الأزمات الداخلية العربية من العراق مروراً بفلسطين وصولاً إلى لبنان، ناهيك عن عشرات التفاصيل في غير مكان عربي. والجديد هذه المرة أيضاً، دخول عنصر إضافي هو"فتح الإسلام"وما يعنيه من تعقيدات الوضع الفلسطيني في لبنان، معطوفة على موروثات سياسية وعقائدية لهذه الجماعات. وبدا بيان الوزراء العرب أقرب إلى قاعدة"لا يقتل الذئب ولا يفنى الغنم"عبر محاولة التوفيق بين مطالب بعض اللبنانيين والموقف السوري من الأزمة اللبنانية، وهو وان لم يقدم جديداً ذات مفاعيل قابلة للحياة، إلا أنه يعتبر من باب محاولة فتح ثغرة في الجدار العازل بين اللبنانيين أنفسهم، في وقت يتسابق جميع اللاعبين لبنانيين وإقليميين ودوليين على شراء الوقت المستقطع في عمر الأزمات الكبرى في المنطقة. ونجاح الوساطة يتطلب شروطاً متنوعة ومتعددة أكبر من الصلاحيات الممنوحة أساساً لجامعة الدول العربية وتتعدى طاقتها وقدرتها. وفي هذا الإطار يمكن تسجيل الملاحظات الآتية: - لم تكن جامعة الدول العربية منذ نشأتها في العام 1945 موقعاً يمكن الاعتماد عليه لحل الأزمات العربية - العربية أو الأزمات الداخلية العربية على رغم إسناد ميثاقها مثل هذه المهمات الى مختلف أجهزتها ومنها الأمانة العامة، إلا أن هامش التحرك ظل مرتبطاً بمدى توافق الأطراف الفاعلة في الجامعة ومدى قدرتهم منفردين على حل الأزمات في معزل عن الضغوط الإقليمية والدولية. - الإنصاف يستدعي الاعتراف بأن غالبية ألازمات العربية، ومنها اللبنانية، كانت ذات طبيعة مركبة ومعقدة بحيث يستحيل على الأطراف العربية في الجامعة حلها، فمعظم النزاعات، تداخلت فيها عناصر خارجية إقليمية مؤثرة بحيث يصعب إنتاج أي حل - تسوية في معزل عن مصالح هذه الأطراف، وفي ما يختص بالحالة اللبنانية ثمة أزمات متلاحقة بدءاً من عام 1958 مروراً بأزمات 1969 و1973 و1975 وصولاً إلى الأزمة الحالية، جميعها لم تتمكن الجامعة العربية من حلها. - سرعة الفرز السياسي بين الدول المركزية العربية في محاور متقابلة تجاه بعض القضايا العربية العامة أو الأزمات الداخلية العربية قد عقّد مهمات الوساطات التي أجريت أو تلك المحتملة، وبالتالي تضاءلت فرص الحلول وهذا ما انطبق وينطبق أيضاً على الحالة اللبنانية. - هناك أطراف إقليمية غير عربية تمكنت وبسهولة من النفاذ إلى عمق ألازمات الداخلية العربية ومنها اللبنانية، بفعل عدم قدرة أي طرف من حسم الأمور لمصلحته بمعزل عن دعم خارجي، الأمر الذي أسس لبيئة لبنانية داخلية قابلة للفرز بأي اتجاه كان سياسياً، طائفياً، مذهبياً، مناطقياً... ما عقد ويعقد أي مسعى أو وساطة ومنها الوساطة العربية الحالية. - وقوف الأطراف الداخلية اللبنانية عند الحدود القصوى لمطالبها وعدم وجود الاستعداد للتلاقي على نقاط محددة يجعل الوساطة العربية تبدو وكأنها تسابق الزمن بين انطلاقتها والعودة إلى حيث بدأت، في وقت تستسهل الأطراف لعبة شراء الوقت المستقطع من عمر الانفجار المحدد. وإذا كانت هذه العقبات تبدو من أسباب فشل الوساطات العربية الى الآن، فما هي شروط نجاحها وهل في الامكان التوصل إليها؟ أبرز الشروط المطلوبة لتخطي هذه الأزمة بالتحديد هي وعي اللبنانيين بأن ما يمر به لبنان هو ظرف تستحيل معه المناورة لتقطيع الوقت بانتظار ظروف أخرى تدعم هذا الفريق أو ذاك، ففي الأزمات الكبيرى السابقة ظلت قواعد اللعبة مضبوطة إلى حد كبير، أما اليوم فيبدو الأمر مختلفاً، فمؤسسات الحكم طرف، والأطراف الأخرى إما جزء منها أو معارضة لها، كما أن موضوعاتها وتفاصيلها عززت صورة الانتقال من الفرز السياسي إلى المذهبي في بعض وجوهه، ما يعقد شروط نجاح الوساطة. ثاني الشروط المطلوبة وعي جميع الدول العربية ومحاورها، بأن تعزيز سياساتها لا يتطلب بالضرورة دعم مواقف الأطراف اللبنانية غير القابلة للهضم السياسي والوطني، بل يتطلب بالضرورة الوقوف على مسافة واحدة من الجميع والنظر بعين واحدة لبعض القضايا ذات الصلة بالأمور المصيرية وتلك المؤثرة فيها، لا سيما المسائل الميثاقية. والاقتناع أيضاً بأن وصول لبنان إلى الانفجار الداخلي سيصيب كل من حوله، وربما تكون ارتدادات الإصابة أشد قسوة وخطراً. والشرط الثالث اقتناع الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة بأن أي حل للقضايا المزمنة يتطلب حلولاً سياسية قابلة للحياة، وأن الهروب إلى الأمام وشراء الوقت في أزمات لبنان الداخلية سيزيد الأمور تعقيداً. حدود نجاح الوساطة العربية وشروطها ليست متوافرة على ما يبدو حتى الآن، فهل يعي اللبنانيون ما يدور حولهم وما هم يدورون حوله، في فلسطين حيث قتال الأخوة قضى على القضية، وفي لبنان ثمة من ينفخ في نار الفتنة عبر المخيمات، فهل التحق لبنانوفلسطينبالعراق ليتشكل مثلث برمودا الشرق الأوسط؟ سؤال يستحق التأمل والجواب قبل فوات الأوان. * كاتب لبناني.