يمثل لبنان حالة نموذجية لدولة عربية مرتبطة عضوياً بالخارج، ليس فقط في ما يتصل بسياساتها وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، لكن أيضاً في الفكرة الأساسية التي تستند إليها الدولة اللبنانية بدءاً من نشأتها وحتى الآن. فقوام هذه الدولة وجوهرها ليسا سوى انعكاس لعوامل خارجية وجدت صدى قوياً لها في النسيج اللبناني الداخلي. هذه هي مشكلة الدولة اللبنانية الدائمة: ارتباطها بالخارج والتداخل بينه وبين الداخل شديد التنوع والتميز، حتى أن التباينات وأحياناً التناقضات بين القوى الخارجية المعنية بلبنان والفاعلة فيه، تتضاءل أمام الفجوات والمساحات الواسعة بين القوى اللبنانية ذاتها. كما أن المشكلة لا تختص بقوى لبنانية بعينها، ولا بمرحلة زمنية محددة، وإنما هي سمة ثابتة نشأت مع تكوين الدولة اللبنانية وأصبحت ملازمة لها. وكما كان هذا الارتباط سبباً رئيساً لكثير من مشكلات لبنان، كان أيضاً العامل الأكثر تأثيراً ودفعاً باتجاه بقاء الدولة اللبنانية والحفاظ عليها، بل يمكن القول إن الأوقات التي تعرضت فيها"الدولة"اللبنانية إلى الخطر بالمعنى الذي يطاول كينونتها أو يهدد بقاءها، هي الأوقات التي تسعى فيها بعض القوى الداخلية أو الخارجية إلى تغيير المعادلات الدقيقة الحاكمة لبقاء لبنان، إما بالعمل على إقصاء قوى وجماعات داخلية واستئصالها لحساب قوى أو جماعات أخرى، أو بالعمل على إخضاع لبنان لسيطرة كاملة من قوى أو أطراف خارجية من دون أخرى. ويلاحظ أن الإنقاذ من خطر التفكك والفناء كان ينطلق دائماً من فكرة التوافق والجمع بين"التعدديات"داخل لبنان، في صيغة ربما تكون هشة أو قابلة للتأثر، لكنها دائماً الأكثر قبولاً وقابلية للتطبيق بين اللبنانيين. كما يلاحظ في الوقت ذاته، أن التوافق وحده لم يكن يوماً كافياً لإنجاح عمليات الإنقاذ تلك، إذ كان التوافق الخارجي هو المدخل والبداية قبل أن ينتقل إلى الداخل. والأمثلة كثيرة على ارتهان الدولة اللبنانية لهذا التلازم بين التعددية الداخلية من جهة وامتزاج الداخل والخارج من جهة أخرى، بيد أن الحرب الأهلية التي نشبت عام 1975 تقدم مثالاً نموذجياً على ما ينجم عن محاولات انفراد قوة أو قوى محددة بالسلطة أو في السيطرة على لبنان، وكذلك على تداعيات عدم التوافق الخارجي وتضارب المواقف بين الأطراف الخارجية الإقليمية والدولية المعنية بلبنان. وفي المقابل يقدم اتفاق الطائف مثالاً آخر في الاتجاه العكسي، أي ما يؤدي إليه التوفيق بين المصالح والسياسات الخارجية تجاه لبنان، خصوصاً إذا تزامن مع استشعار القوى الداخلية ضرورة الخروج من دائرة العداء والعودة إلى مربع التوافق القائم على قبول الآخر والتحرك معه وتجاهه مع الاحتفاظ بالتمايز في إطار مساحة واسعة من التعددية. حرب تكسير المعادلات بدأ قطار التغيير الخارجي رحلته إلى المنطقة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، فبعد أشهر قليلة من هذه الأحداث وقعت حرب أفغانستان، ثم بعد أقل من سنتين احتُل العراق في 9 نيسان أبريل ، وربما كان مقرراً أن يكون لبنان أو سورية المحطة التالية، إلا أن مناورات دمشق السياسية مع واشنطن خصوصاً في العراق، وتعثر الأخيرة في تسيير عملية الاحتلال، والتطورات السلبية لعملية التسوية في فلسطين، عوامل عطلت تأثر لبنان سريعاً بالتغيير الحاصل في البيئة الخارجية، لكن تلك العوامل والتطورات ذاتها، هي التي جعلت التأثر بتحولات البيئة الخارجية أكثر وضوحاً وانكشافاً بعد حدوثه، كما أن التأثر العكسي لم يكن أقل وضوحاً، فكان لقرار تمديد فترة رئاسة الرئيس اللبناني إميل لحود وقع قوي لدى واشنطن وباريس، وجاء صدور قرار مجلس الأمن رقم 1559 بمثابة رد عاجل ومباشر على التمديد للحود، وإيذان في الوقت ذاته بأن مرحلة"لبنان السورية"انتهت أو يجب أن تنتهي. من هنا مثل خريف عام 2004 نقطة البداية الحقيقية للأزمة اللبنانية الأخيرة، فخلال هذه السنوات الثلاث، تشبّعت التفاعلات الداخلية اللبنانية بالتغييرات الخارجية ووصلت التباينات والتبدلات في الموازين الإقليمية إلى ذروتها. والمقصود هنا هو مجموع الاستقطابات الإقليمية التي عكست تصارع الإرادات بين القوى الدولية والإقليمية المتعارضة في أفكارها وتصوراتها ليس إزاء قضايا أو مشكلات المنطقة وحسب، لكن أيضاً إزاء جوهر وطبيعة الوضع الإقليمي بل والأوضاع الداخلية في دول المنطقة. وكان لبعض الأحداث بعينها دور محوري في التعجيل في وتيرة التحولات والتفاعلات الداخلية والخارجية في لبنان وحوله، والحدث الأهم والأبرز في هذا الخصوص هو اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 شباط فبراير 2005، والذي مثل محطة مفصلية في الحياة السياسية اللبنانية. وتشكلت عملية فرز في استقطاب ثنائي تتداخل فيه المواقف والأطراف الإقليمية والدولية، وقوى فاعلة غير دولية مثل"حزب الله"وپ"حماس". وتأكدت هذه القطبية الثنائية المتعددة الأطراف في كل قطب مع حرب لبنان الأخيرة في تموز يوليو وآب أغسطس 2006، فكانت هذه الحرب أكثر من مجرد معركة عسكرية الهدف منها القضاء على"حزب الله"أو حتى مجرد كسره سياسياً، لقد كانت اختباراً فعلياً وحقيقياً للقوة بكل معانيها بين محوري الاستقطاب في المنطقة. ولو كانت تلك الحرب انتهت لمصلحة إسرائيل عسكرياً أو حتى سياسياً، لكان معنى ذلك نصراً لكل المجموعة المكونة للقطب الأول. أما وقد انتهت الحرب في الاتجاه العكسي، وفي ظل اختلال موازين القوة بين القطبين، فإن الأمور سارت إلى تعقيد أكبر وتأزم أشد، بل إن إخفاق تل أبيب عسكرياً وواشنطن سياسياً في هذه الحرب أكد إلى حد بعيد موقع وموقف كل من القطبين وأعضائهما، ويمكن بكثير من الثقة وصف المجموعة الأولى بأنها تشكل قطب"المهادنة"، بينما يمكن بذات القدر من الثقة توصيف المجموعة الثانية بأنها قطب"الممانعة". ولما كان لبنان في قلب هذه التفاعلات والتطورات، فالحرب كانت تجري على أراضيه، وبدماء أبنائه، كان من الطبيعي أن تنعكس تلك الإفرازات والاستقطابات والتحالفات على الداخل اللبناني، أخذاً في الاعتبار أنه كما بدأت التحولات الخارجية قبل الحرب، فإن الفرز الداخلي بدوره بدأ قبل الحرب. وكما وضعت الحرب القوى والأطراف الخارجية كل في مكانه وبحسب مواقفه وحساباته، ثبتت الحرب أيضاً موقع ومكان كل من القوى والتيارات الداخلية في لبنان كل بحسب اختياره. وراح أطراف المعادلة اللبنانية يتمسكون بمواقفهم ويتمترسون خلف أوراقهم وأدواتهم، واستوت في ذلك الأطراف القوية والضعيفة. لكن ليس هذا فقط الجديد الذي حملته الحرب على لبنان، فقد أسهمت الحرب أيضاً في كشف بعض المواقف الضبابية وبالتالي رفع الغطاء وپ"تعرية"مواقع بعض القوى المراوغة. من هنا فإن الأزمة الأخيرة هي"أخيرة"لكنها ليست"آخر"أزمات لبنان، بمعنى أنها لن تكون نهاية سلسلة أزمات الدولة اللبنانية، بغض النظر عن القضايا والمواضيع محور الخلاف. وينبغي الانتباه إلى أن الأزمة لم تشتعل في لبنان فجأة، فالمأزق قائم والخلافات قديمة وإن تجددت مظاهرها أو تباينت حدتها من وقت إلى آخر. وهو ما يمكن بسهولة الاستدلال عليه من الإشارة إلى طبيعة القضايا الخلافية التي تمحورت حولها الأزمة الأخيرة في لبنان. إلا أن ذلك يتطلب تحديد فريقي الخلاف في قطبي"المهادنة والممانعة"ليس على النطاق الخارجي، وإنما في الداخل اللبناني. وهما الفريقان اللذان يطلق على أولهما"الأكثرية"أو"الموالاة"، بينما يطلق على الآخر"الأقلية"أو"المعارضة". وهي تعبيرات تحمل كلها من الدلالة العددية والكمية ما لا ينطبق بدقة على الوضع الانقسامي الحاصل في لبنان، حيث الخريطة موزعة كيفياً حول مواقف واتجاهات، بينما هي في المعيار العددي والمؤسسي خريطة متوازنة إلى حد بعيد، لا يوجد فيها أكثرية أو أقلية بالمعنى الصحيح، وبعيداً من أسباب الخلاف المعلنة، ثمة خلافات في العمق بين الفريقين تتلخص في مسألتين: 1- القرارات الدولية. 2- الدولة اللبنانية. إن الخلاف حول حكومة السنيورة أو رئاسة لحود أو محاكمة الحريري، هو في حقيقته خلاف حول العرَض وليس المرض. فتلك المسائل تكتيكية ومرحلية بطبيعتها، وهي ظواهر للأزمة. لذا لم يكن مستغرباً أن يبدأ الاقتراب من حلها منتصف آذار مارس 2007، في سياق موجة الانفراجات الإقليمية في المنطقة التي شملت مؤتمر بغداد حول العراق، والتوصل الى حكومة وحدة وطنية في فلسطين بعد إبرام اتفاق مكة، وفتح أبواب الحوار بين الولاياتالمتحدة وكل من سورية وإيران. وهذا يؤكد مرة أخرى أن الداخل اللبناني هو في النهاية مرآة الخارج، كما يؤكد أن التعقيدات والتأزمات الداخلية اللبنانية مهما بلغت من اختناق يقترب من الانفجار، تبقى محكومة بالتوافق في نطاق التنوع الذي هو الخط الأحمر الذي يردع الجميع داخلياً وخارجياً. لكن التعامل مع ظواهر المشكلة لا يعني معالجة مضمونها، فالأزمة الحقيقية هي في القرارات الدولية وفي مستقبل الدولة، وكلاهما مترابط ووجهان لقضية واحدة، فالقرارات الدولية المقصودة تفضي حال تنفيذها حرفياً إلى نزع سلاح"حزب الله"، وتوسيع نطاق عمل قوات"يونيفيل"حتى تصل إلى الحدود اللبنانية - السورية. وجعل الجيش اللبناني القوة العسكرية الوحيدة في لبنان. هذه هي خلاصة القرارين 1559 و 1701. وتلك المحاور تعني ببساطة"كسر عظم"بالنسبة الى حزب الله، وتقويضاً لقوته العسكرية ما يعني كخطوة تالية تقليصاً لقوته السياسية، وبالتالي إعادة تشكيل ورسم الخريطة السياسية اللبنانية بعد تهميش موقع"حزب الله"فيها، وقد لا يعني ذلك تهميشاً أو تقليلاً من الوزن النسبي للشيعة في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً مع وجود حركة"أمل"، لكنه يعني بالضرورة انتقاصاً من الحضور الطاغي لهم في ساحة التأثير السياسي، كما يعني بالتوازي مع ذلك وبالقدر ذاته، إفساح المجال أمام قوى وتيارات أخرى - قد لا تكون بالضرورة مذهبية أو دينية - للتمدد والتوسع سياسياً واقتصادياً وسلطوياً. والمغزى الأهم هنا، أن هذه التغييرات المحتملة، ستصب في النهاية في خانة طبيعة وشكل الدولة اللبنانية. فمن المعروف أن بعض القوى اللبنانية يتحين الفرصة لفتح ملفات تمس مباشرة جوهر النظام السياسي اللبناني بل طبيعة الدولة وهويتها، بدءاً من النظام الانتخابي، مروراً بمعايير توزيع المناصب والمؤسسات، انتهاء بروح الدولة أو الفلسفة الحاكمة لمفهوم الدولة لدى اللبنانيين. في النطاق الأوسع، أي الخارجي وبالتزامن مع المسار الداخلي، سيؤدي التنفيذ الحرفي للقرارات الدولية وفق تفسير واشنطن وباريس والمجموعة المهادنة في الداخل إلى إضعاف سورية وإيران وسحب الأرضية اللبنانية من تحت سياساتهما الإقليمية. مع ملاحظة أنه إذا كانت هناك مصلحة مفهومة وواضحة لأطراف خارجية مثل إسرائيل أو الولاياتالمتحدة في إضعاف سورية وإيران، فإن القوى اللبنانية الداخلية الساعية إلى هذا الهدف تعلن أن ذلك التوجه إنما يصب في خانة الوطنية اللبنانية، وأن الغاية هي استقلال جديد للبنان، يتخلص معه من الوصاية السورية السياسية والأمنية، ويخلع عباءة طهران الضاغطة عليه مذهبياً والمقيدة له استراتيجياً. ومرة أخرى يبرز على السطح مدى الامتزاج بين الداخل والخارج، ومدى عمق أزمة الدولة اللبنانية بما يتجاوز كثيراً حدود الخلاف على حكومة أو محكمة أو منصب رئاسي. بين الديني والسياسي على مستوى أكثر عمقاً من مستوى التفاعلات الداخلية والخارجية والموقف من إسرائيل في جانب أو حزب الله في الجانب الآخر، هناك زاوية أخرى للنظر إلى أزمة الدولة والاستقطاب في لبنان، هي زاوية الاستقطاب الديني والسياسي، وهي تشمل في منظورها كلاً من الداخل والخارج بحكم التداخل كما أنها تتكامل في واقع الأمر مع زاوية الاستقطاب حول الدولة اللبنانية ذاتها من جانب، والموقف من فريقي"المهادنة"وپ"الممانعة في الداخل وفي الخارج"من جانب آخر. فمن الظواهر اللافتة في المشهد اللبناني الحالي، أن فكرة الطوائف والانقسام المذهبي تشهد تراجعاً ملحوظاً، حتى أن هذا التراجع ذاته ربما يفسر المبالغة في التركيز على هذا العامل ومحاولة تأجيج النزوع الطائفي والمذهبي لدى الشيعة والسنّة على وجه الخصوص. ويمكن لمتابع الشأن اللبناني في السنوات الثلاث الأخيرة أن يلحظ رجحان العامل السياسي على الديني في لبنان، حتى أن الصورة الآن أصبحت تضم لقطات ذات معنى سياسي محض، ولهجات تَخاطُب تخلو بدورها من النفس المذهبي أو الديني، وهو ما يجسده على سبيل المثال بروز مسميات وتقسيمات من شاكلة أكثرية/ أقلية والحكم/ المعارضة مقابل تواري التوصيفات المستندة إلى محاور وأسس مذهبية ودينية مثل الموارنة/ الشيعة/ السنّة/ الدروز/ ..... إلا أن الجانب الأكثر مدعاة للتأمل في خريطة القوى اللبنانية من هذه الزاوية، هو ذلك الجانب المتصل بتركيبة كل من المجموعتين المختلفتين حالياً، فكل منهما تحوي داخلها توجهات وروافد عدة، ولم تعد مقصورة على مجموعة أو تيار بعينه، وهو ما يكرس التحول السياسي المشار إليه. حتى أنه يصعب في واقع الأمر تحديد العناصر التي يتكون منها كل من الجانبين بمعزل عن الإطار التنظيمي والمؤسسي الذي تنضوي تحته. فمجموعة"المهادنة"التي تطلق على نفسها الأكثرية أو الأكثرية الحاكمة تتكون من عدة روافد فكرية ومذهبية، ويصعب تعريفها بتلك المنطلقات، بينما يتم التعرف عليها من خلال قوة"14 آذار مارس"أو"اللقاء الديموقراطي"أو"الكتائب"،. وغيرها من التنظيمات"السياسية". وفي المقابل، لم تعد المعارضة شيعية أو حتى مسلمة وحسب، إذ تضم - إضافة إلى"حزب الله"-"التيار الوطني الحر"... وآخرين. من هنا، ثمة مدخل مهم إلى فهم ليس فقط ما يجرى بين هذه القوى والتيارات المتنازعة بل المنقسمة على نفسها، لكن أيضاً إلى فهم لب أزمة الدولة في لبنان، هو مدخل الموقف من السياسة اللبنانية، أي السياسة الصادرة من لبنان تجاه الخارج وأيضاً الموجهة نحو لبنان من الخارج. فبناء على المواقف والتقويمات التي يصدرها كل طرف أو تيار يجرى الفرز والاستقطاب في الساحة الداخلية اللبنانية، بصرف النظر عن هوية هذا الطرف الدينية أو المذهبية أو حتى أفكاره ومنطلقاته السياسية السابقة. ومن هذا المدخل يمكن بسهولة رصد علامات تطور وتقدم نحو"السياسي"على حساب"الطائفي"أو"الديني". لكن، مقابل أهمية وإيجابية هذا التحول، ينبغي الحذر مما قد يؤول إليه الانسياق الكامل وراء السياسي على حساب الديني، فكما سبقت الإشارة، ربما تشهد مظاهر الأزمة حلولاً، لكن جوهرها ليس بعد. وفي ضوء كون العامل الخارجي هو الرقم السري في تلك المعادلة/ المعضلة، سواء بالارتباط الفعلي لبعض القوى مع الخارج، أو باستعانة قوى أخرى به لحلحلة المواقف، أو باستغلال أطراف خارجية ثالثة للأزمة كي تتدخل وتفسح لنفسها مكاناً في الساحة اللبنانية المزدحمة، فإن الاتهامات المتبادلة بالعمالة أو الارتباط بالخارج قد لا تعكس بالضرورة العلاقة الحقيقية القائمة مع الخارج. لكن المشهد الراهن قد يتيح بالفعل لبعض القوى الخارجية أن تلعب الدور الأكبر مستفيدة من غلبة السياسي على الديني، فالاصطفاف اللبناني التقليدي وراء المحور الديني والمذهبي كان يؤدي بدوره إلى اصطفاف في المواقف الخارجية وفرز واضح ومحدد لها، أما في حالة تغليب السياسي على الديني فإن قواعد اللعبة تختلف وتستند إلى معايير السياسة التي بطبيعتها ليس لها معايير ثابتة. بالتالي فإن بوصلة أزمة الدولة اللبنانية الحقيقية - في جوهرها لا في مظهرها - قابلة للإشارة إلى أي اتجاه في أي لحظة، بما في ذلك الانفراج المفاجئ، أو الانفجار المدوي الذي يطيح بكل ما حققه اللبنانيون من رصيد داخلي وخارجي. ولما كانت السياسة هي اللاعب الأساسي الآن وليس الدين ولا المذهب ولا العرق، فإن الاحتمالات كلها قائمة ومفتوحة، لكن تبقى السمة الرئيسة في"السياسة"هي الورقة الأخيرة التي قد تحكم مستقبل الدولة في لبنان، وهي أن السياسة تتعامل بالممكن وما هو متاح، ليس بما يجب أن يكون. وتعتبر المرحليات والحلول الجزئية الموقتة مخارج أكثر واقعية وعملية من الإطلاقيات والمباريات الصفرية. فإذا كان اللبنانيون المتجهون عملياً إلى تسييس واقعهم يعانون بالفعل مما لهذا التحول من تداعيات وسلبيات لا بد منها، فإنهم قادرون أيضاً على إعمال الشق الإيجابي في ما وصلوا إليه من تقدم نحو التسييس. إذا، لبنان بالفعل يعد حالة متفردة في أزمات الدولة في المنطقة العربية، ونموذجاً غير متكرر لجهة التداخل والتمازج الشديدين بين مختلف زواياه وأبعاده، الداخل/الخارج، المهادنة/ الممانعة، السياسي/الديني، الدولة المركزية/ الفاعلون من غير الدول، المؤسسية/ الشعبوية.. إلى آخر ما يمكن رصده من تقسيمات ومحاور تصلح جميعاً للنظر إلى واقع الدولة اللبنانية وأزمتها. والأرجح، أن ذلك التداخل والتعدد في المحاور والاستقطابات اللبنانية، وكما يؤدي إلى تعقيد وتعميق أزمات لبنان ودولته، يعمل في كثير من الأحيان على تخفيف تلك الأزمات والحيلولة دون انفجارها، فكثيراً ما يعاد فرز التحالفات وبناء المواقف للهروب من نقطة اللاعودة، ويكون ذلك بتغليب نمط من الاستقطابات على آخر. والثابت وسط هذه التحولات والانتقالات، أن ثمة حرصاً لبنانياً، يستوي فيه الفرد والدولة، على استمرار الدولة اللبنانية وبقائها، بتعدديتها وبامتداداتها، بتعقيداتها وتشعباتها، بتوازناتها الخلافية واختلالاتها المتفق عليها. * كاتب مصري. والمقال جزء من ملف عن الدولة العربية والاستقطاب الإقليمي، يُنشر في العدد الجديد من مجلة "السياسة الدولية" الصادرة في القاهرة - نيسان 2007