ذات يوم، حسم أستاذي الفرنسي الذي اعتنق البوذية بأن ما من صدفة في الحياة. قال واثقاً: "إن الصدفة تصنع العالم في نظر المغفّلين وحدهم". كان أستاذي الفرنسي يؤمن، إذاً، بأن كلّ ما يحدث للمرء يكون إمّا بإرادته الواعية أو اللاواعية، فهو، بمعنى ما، قدر لا مفرّ منه. وهذا القدر الذي كان يسميه"الكارما"، وهو مفهوم العمل في أديان آسيا وفلسفاتها، نتيجة أفعال قام بها المرء في حيواته السابقة. نعم، بهذه البساطة علّل أستاذي البوذي الأشياء التي تحدث في حياة المرء ومنها، بطبيعة الحال، طريقة موت الآخر أو ساعة موته. لم يخطر لي آنذاك أن أسأله عمّا إذا كان موت أحدهم بالصدفة أو"بالغلط"، كما حدث للتسعة الذين قضوا في انفجار الروضة أو ملعب النجمة، هو أيضاً قدر لا مفرّ منه. وذلك ربّما لأني نشأت في مدينة قُتل فيها عشرات الآلاف"بالغلط". وبالنسبة لي، لم يكن موت أحدهم بسبب قذيفة أصابته يستدعي طرح أسئلة وجودية. فربما يحتاج واحدنا، حين ينشأ في مكان الموت فيه بالغ السهولة، إلى وقت طويل كي يتنبّه إلى أنّ الموت بقذيفة ليس بالمسألة العادية. اليوم سألتني صديقتي مونيك إن كنتُ ما زلت مصرّة على العودة إلى لبنان رغم علمي بالإنفجار الأخير الذي أودى بحياة وليد عيدو وتسعة آخرين. فبعد أن كنت قد أكّدت لها قبل يومين فقط بأني عائدة، وبعد أن كانت كل محاولاتها إقناعي بالبقاء في برلين للسنتين المقبلتين على الأقل ولا أدري لماذا لم تقل للعشرين سنة القادمة قد باءت بالفشل، وبعد إغرائي بالطقس الجميل الذي يعمّ برلين حاليّاً وبالحياة الثفافية الغنية، إلى ما هنالك من"إغراءات أوروبية"، إضافةً إلى فرصة عمل لا بأس بها في انتظاري...، بعد كلّ ذلك قلت لها بأني أودّ العودة إلى بيروت رغم الوضع السيّء القائم، ورغم الحرب"الباردة"، ورغم عشّاق الشهادة وعشّاق الإزدهار، بل رغم فقداني الأمل بتحسن قريب في النفوس والسياسة. فأنا سوف أعود لأني، ببساطة، أريد أن أعيش هناك. ليس من أجل الطقس الجميل أو وجود الأهل والأصدقاء، ولا من أجل الأسئلة الكثيرة المعلّقة التي، لأنها كذلك، تضفي بعضاً من التشويق على الحياة على عكس الحال في برلين حيث الأسئلة لا تبقى معلّقة مطوّلاً، بل سرعان ما ينزلونها الى أرض الحلّ فتغدو أجوبة. وهذا، بالحقيقة، يضفي شيئا من الملل مع مرّ الزمن. إنني أريد أن أعود لأني، أولاًّ وأخيراً، سئمت التساؤل عمّا إذا كان العيش هنا أفضل من هناك، وقرّرت الحسم. قررت حسم الموضوع ببساطة وكأنه مسألة"طرّة ونقشة"كما يقول اللبنانيون. وقد رسوت على ما وقع عليه القرش، وكان ذلك"طرّة"، والطرّة كانت لبيروت. وكنت في السنة الماضية قد عدت إلى مدينتي تلك وعشت فيها. وإذ بدأت بالعمل هناك، وجدت إيقاعاً حياتياً هادئاً وأصدقاء قدماء وآخرين جدداً. كذلك تعرّفت إلى حيّ جديد بأصحاب دكاكينه الذين نسمّيهم الدكنجيّة، وببوّابيه الذين أحيّيهم صباحاً، وبالفالي باركينغ الكثر الذين أمسّيهم مساء. وعدت أستعين بالسرفيس للتنقل وأتأفف من قذارة السيارة وإهمال سائقها لها ومن استخفافه بي وبالركاب الآخرين. عدت أتناول الغداء كل يوم عند أمي وأشرب الشاي بعد الظهر مع أبي، وأحياناً مع أختي أو خالتي، إلى أن يحلّ المساء فألتقي أحد الأصدقاء في مقهى الروضة، ولاحقاً في إحدى مقاهي الحمرا أو مطاعم الأشرفية وربما الجمّيزة. فإن لم تكن لدي رغبة بالخروج، رجعت إلى منزلي، فحيّيت البواب السوداني اللطيف، وعرّجت على العم ريمون طالبة منه أن يرسل لي بعض قناني الماء مع الصبي، قبل أن أودّعه صاعدة إلى منزلي الصغير والجميل. عندها أغلق الباب خلفي حيث أخلع حذائي وأستلقي على"الصوفا"لبضعة دقائق تمهيداً لاستئناف حياتي الهادئة المفعمة بالحب لهذا المكان الجديد-القديم. حياة هادئة هي التي أعيشها في بيروت، قلت لمونيك، وبإمكانكِ، رغم الوضع القائم، أن تجدي صيغة للعيش جذابة وحيوية إلى حدّ ما. لكن لهذا شرطه: أن تكفّي عن مطالعة الصحف وعن تحريك جهاز التلفزيون. وأنتِ فعلاً، حالكِ كحالي، لستَ مضطرّة إلى سماع الأخبار اليوميّة ما دام عملك لا يستدعي ذلك. لكن الإنفجار الذي حصل على مقربة من مقهى الروضة انفجر حقيقةً في رأسي. فالروضة المقهى الذي آتي إليه مع أصدقائي كما يأتي بعض أفراد عائلتي مع أولادهم لتمضية بعض الوقت، وغالباً ما يبتدىء هذا كلّه في الخامسة مساء، أي الساعة التي حصل فيها الإنفجار. ولحسن حظي لم أعلم بالإنفجار الا بعد بضع ساعات على حصوله. فأنا أتجنّب سماع الأخبار لا في بيروت فحسب، بل حتى في برلين. أختي المقيمة في بلجيكا كانت قد أجرت الإتصالات مع عائلتي واطمأنت على كلّ فرد فيها. وصديقتي المقيمة في لندن، والتي كلّمتها للإطمئنان أيضاً، كانت قد أجرت اتصالاتها واطمأنّت على الأصدقاء. بيد أنني وجدت، حين سألتني مونيك اليوم عمّا إذا كنت لا أزال مصرّة على العودة إلى بيروت عند انتهاء فرصتي البرلينية، أن من الحماقة أو"الولدنة"أن أتابع إصراري. هكذا قلت لها بأني فعلاً أعيد النظر في الأمر، لكن موضوعي هذه المرة ليس"أين أريد أن أعيش"، بل"كيف أريد أن أموت". فقد كان ثمة احتمال كبير بأن أكون الآن ضمن الأشخاص الذين قضوا أمام مقهى الروضة. قلت لمونيك إني لا أريد أن أموت تلك الميتة، مفضّلة الموت هنا في حادث سيارة عن انفجار يُميتني هناك. وليس ما يزعجني في تلك الميتة تشظي أعضائي وتطاير أحشائي بقدر ما يزعجني عامل الصدفة، وهذا، والحق يقال، من دون تأثير أستاذي الفرنسي. فأنا قد أموت هناك لأني كنت بالصدفة أمام مقهى الروضة في اللحظة التي انفجرت فيها العبوة. وهنا لا بأس بشيء من المقارنة اليت تدلّ على فداحة ما أعني: فلو كانت المتفجّرة مزروعة لي شخصياً، تستهدف قتلي، لكان الأمر فظيعاً حتماً. لكني، على الأقل، كنت أنا المُستهدفة التي لا تموت بفعل الصدفة. غير ذلك، أي بالموت المصادف، يجعل الموت حادثة سخيفة. والسخف موت ثانٍ. قلت لمونيك إني، على الأرجح، أفضّل الموت هنا، في برلين. فهذا، على الأقل في الوقت الحاضر، لن يحدث بسبب ارتفاع الضغط أو مرض في القلب مثلاً وهو سبب الوفاة الأول في قائمة الوفيّات في ألمانيا، كوني لا أعاني من هذين المرضين. كما أني قرأت البارحة، وبالصدفة، فيما كنت أبحث عن شيء لا علاقة له بالموضوع في الإنترنت، عمّا تفيده الإحصائيات السنويّة لوزارة الصحة الألمانية: إن عدد الموتى من الأصحّاء - أو الذين يظنون أنهم كذلك - يفوق عدد المرضى الذين يموتون. كما أن جزءاً كبيراً من أولئك يقضي في حوادث سير. هكذا فضّلت، إن كان لا بدّ من موتي قريباً، الموت في حادث سير. وبما أني بعت سيارتي حين انتقلت للعيش في بيروت، رجّحت أن أموت دهساً. وهنا رحت أهلوس: فحتى لو تصادف وجودي في الشارع مع مرور ذاك السائق المتهوّر، لن تبقى المسألة طويلاً في خانة"الصدفة العابرة". ذاك أن الشخص الذي سيدهسني صحيح أنه سيفعل عن غير قصد وأنا، حتى تلك الساعة، لا يربطني شيء به!، سوف تنشأ بيني وبينه صلة مباشرة بمجرّد أن تلمسني سيّارته. ولنعتبره، بقصد السهولة اللغوية، رجلاً ونمضي في التخمين: سوف ينزل من سيارته ويرى ماذا فعل، أي جسمي المدهوس والمدمّى. سوف يخبط على رأسه لشدّة الأسف، ثم ينحني فوقي ويتمّنى من كلّ قلبه أن أكون ما زلت على قيد الحياة. سوف يبذل كل جهده لإيقاظي وحين لا يفلح، ويتأكّد من أنّي توفيت، سيغطي وجهه بكفّيه ويتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعه، ولربما بكى على شبابي أيضاً. هكذا تتحوّل صدفة وجودنا في تلك اللحظة المشؤومة الى علاقة، علاقةٍ لن ينساني قاتلي بعدها، ليس فقط لأن البوليس سيلاحقه قانونياًًً، إنمّا أيضاً لأني السبب الذي حوّله قاتلاً. ولسوف أصير أهم محطة في حياته، يتذكرني كل صباح ربما، وحتماً كلما مرّ في ذاك الشارع وكلما قاد سيارة. وبعد تلك الحادثة، قد يتوقّف عن كسر الغصن الصغير المدلّى من الشجرة، كما اعتاد أن يفعل، ليسلّي به يديه الضجرتين بتكسيره إرباً، وقد يصير رفيقاً بالحيوانات، وقد يبدأ بفصل القمامة الحيوية عن تلك الصناعية، وسيفكّر ألف مرّة قبل أن يقدم على ما قد يؤذي شخصاً آخر. بل ربما زار قبري واهتم بأخبار البلد الذي أتيت منه... المشكلة عندي هي أن زارع المتفجرة لوليد عيدو، التي قضى من جرائها تسعة آخرون"بالصدفة"، لا يرى في الأفراد الذين قتلهم"حياة أخرى"، وفي ما خصّ قتله وليد عيدو تحديداً، فإنه يعتبره قتلاً ل"حالة"مزعجة، فيما قتل الآخرين مجرّد ضرر جانبي أودى"بحالات"هامشية ليس لوجودها، أو لعدمه، أي تأثير على مسار"قضيته". نقطة على السطر وانتهى الأمر. قلت لمونيك: إذا كان لا بدّ أن أموت"بالصدفة"باتت المسألة تتعلق باختيار قاتلي، وأنا حتماً أفضل أن أُدهس من قِبل سائق، أو سائقة، في برلين. هناك سوف سيكون ثمة معنى لموتي بالصدفة، على الأقل بالنسبة الى قاتلي. أليس في هذا عزاء غير بيروتي؟ * كاتبة لبنانية.