أجمعت التنظيمات السياسية السورية على إدانة مذبحة "مدرسة المدفعية" في حلب التي وقعت في 16 حزيران يونيو 1979، وذهب ضحيتها عشرات من طلاب الضباط الشبان، العلويين حصرا. الإخوان المسلمون بالذات تبرأوا من الجريمة التي أعلنت"الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين"مسؤوليتها عنها. لكن كان وراء الإجماع الظاهر هذا أعمق انقسام وطني عرفته سورية في تاريخها حتى ذلك الوقت. فقد دينت الجريمة كحدث سياسي مرفوض لا كواقعة"تأسيسية"، واقعة تؤسس لخراب وطني واسع النطاق، سياسي واجتماعي وثقافي ونفسي، تمأسس خلال ما يقارب ثلاثة عقود حتى صار ثقافة. لقد انشغل الفاعلون السياسيون بالفهم حين كان ينبغي اتخاذ قرار بعدم الفهم. كنا بحاجة إلى ما هو أرفع من"ملكة الفهم"كي ندرك أن تلك الجريمة مأساة وطنية. واليوم، أضحى تفسير واقعة جرت قبل 28 عاما شأنا يخص المؤرخين. والأرجح أنه لن يتعارض كثيرا مع ما كان متداولا في أوساط المعارضين في تلك الأيام، أي الكلام على أوجه مختلفة من الفساد والاستبداد والتمييز... وسمت مجمل سلوك النظام في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وإن كان من المرجح أن يوضع هذا التفسير في إطار تاريخي أطول وأعرض، يستدعي مراحل سابقة، ويحيل على إطار إقليمي ودولي أوسع. ما يجدر بنا التساؤل عنه هنا هو ما الذي منع الفاعلين السياسيين والثقافيين، المستقلين والمعارضين بالخصوص، من تبين الطابع المأسوي التأسيسي لتلك الجريمة؟ كيف أخفقت نخبنا السياسية والثقافية في تطوير إدانة متسقة لها، أي تأسيسية بدورها وغير سياسية؟ العائق المركزي، في ما نرى، يتمثل في وحشية الصراع السياسي الداخلي، واستهلاك السياسة كل تفكير وتكوين هؤلاء الفاعلين، الأمر الذي يؤول بمرور الزمن إلى تبليد الحس الإنساني وتطبيع القسوة والوحشية في الحياة العامة. عنفاً إثر عنف، وإذلالا إثر إذلال، انهارت الأبعاد الأخلاقية والإنسانية للرابطة الوطنية، وتحطمت المعايير التي تتيح التمييز بين جريمة صغيرة وجريمة كبيرة. وسيغدو كل شيء مشروعا في غياب شرعية وطنية مستقلة عن الأطراف المتصارعة. لقد تعذرت رؤية الطابع التأسيسي والمأسوي لتلك الجريمة لأن تأسيسات صغيرة كثيرة كانت سبقت. وسيبدو أن"مجزرة المدفعية"، رغم ما تميزت به من دم وطائفية وقسوة وحشية، مجرد قفزة نوعية في مسار سابق عليها. لكن لم يكن الأمر كذلك. يتعلق الأمر بجريمة مرسومة بإتقان، سفحت دماء حوالى 80 شابا بريئا، فُرزوا عن زملائهم في تمرين"تطهير طائفي"مخبري، وقتلوا وهم عزّل بإشراف ضابط مسؤول عنهم، بهدف تفجير صراع طائفي واسع. كانت تلك المقتلة شيئا مشغولا ومنظما ومتروى فيه. وبالمناسبة، كان البلاغ الرسمي قد تحدث عن 32 قتيلا وعن كونهم من طوائف متعددة، الأمر الذي يكشف نوعية شواغله. كان للجريمة المفعول الذي رغبه منفذوها: أحدثت صدعا وطنيا، قد يكون اليوم مستبطنا، لكن الجميع يعرفون أنه هناك. ومنذ تلك اللحظة ماتت السياسة. لا بسبب اندياح العنف في الشارع، ولا بسبب تصدر الحلول الأمنية وفرط التمركز الأمني للنظام بعدها، بل أولا وأساسا بسبب تمزق عميق أصاب الرابطة الوطنية. لقد ثابر سوريون على محاولة صنع السياسة، بيد أنهم كانوا يناطحون المستحيل. والواقع أنهم كانوا يدخلون السجون زرافات ووحدانا. وهكذا قادت السياسة إلى امتناع السياسة. وتسييس"مجزرة المدفعية"، أي اعتبارها حدثا سياسيا مرفوضا، لكن عاديا، أفقد البلد تجربة عاطفية ونفسية وسياسية تأسيسية، ربما كانت ترمم شيئا من وحدته. وستؤسس المجزرة مسارا يعقبها. بعد عام منها أوقعت السلطات مذبحة أشد هولا في سجن تدمر. والانقسام الوطني العميق تكفل بقص جناحي إدانة هذه الجريمة الجديدة، وردها إلى حدث سياسي بدوره، مرفوض، لكنه حدث فحسب. وبموازاة فيض العنف، كان مسار الوحشية عاكفا على إنتاج تبريراته الإيديولوجية والدينية وتقويض ما قد يكون بقي من حواجز أخلاقية أمام الفتك والتفظيع ب"الأعداء". وسيجرد هؤلاء من الصفة الإنسانية جريا على عادة مستقرة عند أنظمة الطغيان ومنظماته: فهم كفرة أو مارقون، مرة، وجرذان أو"خُوّان المسلمين"، مرة أخرى. وبلغ من دمار فكرة الدولة أن مجزرة هنا صارت تبرر بمجزرة هناك، كأننا في حرب أهلية صريحة، الدولة أحد أطرافها. ولم يكن دمار الدين أقل: كان عقيدة لتسويغ كل وحشية، بما في ذلك القتل على الهوية الطائفية. قد يبدو أن هذا كله تاريخ مضى وانقضى، وأن لا نفع في استحضاره اليوم. هذا موقف قصير النظر في رأينا. فمسلسل وقائع تلك الفترة حاضر في سرديات متعددة، انفعالية ومختلطة وفئوية، ومن شأن استحضاره بوعي أن يتيح لنا تطوير سردية وطنية أكثر تماسكا، أو أقله جمع سردياتنا معا وعرضها على بعضها وكشف ما تكبته أو تتكتم عليه كل منها. هذا سؤال نطرحه على من يتشككون في جدوى هذه المقاربة: ترى لو وقعت اليوم جريمة تحاكي بصورة ما"مجزرة المدفعية"، هل نحن أفضل تأهيلا، سياسيا ونفسيا وثقافيا، لتطوير إدانة وطنية موحدة لها؟ هل سنقدر على جعلها واقعة تأسيسية لوحدة وطنية مستعادة؟ من يتجاسر على الإجابة بنعم عن هذا السؤال؟ إن الانفعال الحاد الذي يواجَه به أي تطرق لحوادث تلك المرحلة التأسيسية، التي تفوق في خطرها وآثارها أي شيء عرفته سورية منذ مطلع العهد البعثي، يبرهن لمن يحتاج إلى برهان على حاجتنا إلى لمّ أشلائها، ثم تنظيفها وتكفينها وتكريمها بدفن لائق. والكلام على استحضار واع لمسلسل فظائع"أزمة الثمانينات"يقتضي وضعه في سياق تفحص الضمير الوطني السوري، وإعادة بناء الوطنية السورية على أسس جديدة، لا يكتفي بطي ملفات متقيحة لما تطو بعد، وإنما يعمل على تمكين البلاد من الوقوف بثبات أمام ظواهر ما دون الدولة التي تتفجر في كل مكان في المشرق العربي، الظواهر التي ليس ثمة ما يقطع بأن سورية منيعة عليها.