شاعر وطبيب وروائي، وكاتب رحلات فريدة في لغتها وتقصيها. لم أقرأ ديوانه الشعري الوحيد، وعنوانه الطويل"صور من ردود الفعل لأحد أفراد العالم الثالث"كما لم أقرأ كتابه النقدي موت الشعر لكني قرأت أعماله الروائية كاملة ابتداء من"الرجل الذي يأكل نفسه"وپ"الشيء"وپ"الخلعاء"والى احدث رواية كتبها وهي"مديح الهروب"الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت. وكانت الرواية الأولى مثار نقاش طويل في جلساتنا الادبية اليومية التي كان من أقطابها البارزين - يومئذ -كمال أبو ديب. وخلاصة تلك المناقشة التي لم تبرح اصداؤها الذاكرة ان خليل النعيمي شاعر متمكن لم يخلع نفسه من الشعر الذي لا يزال مسكوناً به يحاصر لغته ويضيء تعابيرها ويضيف الى الرواية العربية ما تفتقده. الحديث هنا لن يكون عن احدث اعماله الروائية"مديح الهروب"وإنما عن رواية تسبقها في الظهور، وأعني بها"دمشق 67"الطبعة الأولى الصادرة عن منشورات دار الجمل، كولونيا - ألمانيا 2003 وهي من دون مبالغة من أهم الروايات العربية التي ظهرت في الآونة الاخيرة أسلوباً وتقنية وموضوعاً. ومثل بقية روايات خليل النعيمي تأخذ حظها الاوسع من الشعر بمعناه الايجابي الرهيف. وتتألف الرواية من ثلاثة اقسام ومجموعة فصول يرصد فيها الروائي سيرة مثقف متشرد في وطنه يشبه عشرات الآلاف من المتشردين الهاربين من واقعهم الغريب اولئك الذين لا يجدون فيه مكاناً ولا أماناً ويبحثون عند الاكبر منهم سناً وتجربة عن اجابة او اجابات عن اسئلة كثيرة تملأ رؤوسهم عن الوطن ةوالمعرفة والانتماء، عن الحب والفقر والفكر، عن الخوف والمرض والجنس. لن نذهب الى الرواية الا من خلال مناخ من الفكر الذي يتم التعبير عنه بما يشبه الشعر، بل بما هو أعذب من الشعر، ومن خلال اشخاص تلبستهم الثقافة في احدث مستوياتها وأنضجها، ومنهم"ابن الوراق"الذي ينجح في ان يضع بطل الرواية وراويها في اطار من الحيرة والارباك وهو يحلل القضايا الاجماعية والسياسية، ويرد الخطأ الى عوامله الأولية ومنها:"الخطأ السخيف الذي ما زلت تخشاه ثلاثي المصدر: خطأ الكيان، وخطأ المكان، وخطأ الزمان. وهو ما يعني انه سيصيبك حتى ولو كنت في حمى منه"! ومن تحت جفنيه الأملسين نظر الى قارعتي وهو يضيف: ما يهمنا، نحن ليس الخطأ كمفهوم أخلاقي بائس مثل هذا الخطأ بل الخطأ كفعل". وبعد ان استقر في الضوء الدمشقي الآسر تابع بريده، وكأنه يقرأ كلامه في لوح:"أو ما نسميه نحن الخطأ الجليل"وهو، أكمل موضحاً، الخطأ الذي يمتلك حقيقته الخاصة به"؟ وبعد ان ضاعت نظراته في الحجم الهائل للناس الذين لم يكفوا ذلك اليوم عن الهرولة والمرور، اضاف بوثوق"فالحقيقة ليست ملكاً لأحد، وبخاصة لأولئك الذين يزعمونها"؟ ان هذا المستوى العميق من الفكر لا نصادفه الا قليلاً في الاعمال الروائية العربية منها على وجه الخصوص حيث يتعمد بعض الروائيين تسطيح افكاره حرصاً على الوصول الى أوسع شريحة من القراء من ناحية وحيث يعاني البعض الآخر من فقر في التفكير وينصب اهتمامهم على البنية الحكائية اكثر من اهتمامهم باللغة ومستوى التفكير من ناحية اخرى وبالنسبة الى الروائي خليل النعيمي، فإن هذا المنحى لا يتمثل في رواية"دمشق 67"وإنما في كل اعماله الروائية التي تصدر عن مخزون فكري عميق تنطبق عليه شخوصه الروائية بسهولة ويسر، وبعيداً من التكلف، اضافة الى انه يدرس جيداً الخلفيات الذهنية والاجتماعية لشخوصه ويضع كل منها في المكان الصحيح وفي سياق روائي وفني لا يسطو على البنية الروائية. ومن النافل القول إن خليل النعيمي يؤكد من رواية الاخرى انه مبدع مسكون بهموم الانسان وقضاياه، وأن اعماله الروائية اكبر من ان تقف عند اليومي والعابر والهامشي من الاحداث. كما انها جميعاً - أي اعماله الروائية - تشكل عالماً من المغامرات الفكرية الخطيرة التي تكشف - منذ"الرجل الذي يأكل نفسه"الى أحدث أعماله - وبوعي عميق احوال نماذج من الافراد والجماعات العربية عبر علائق وتحولات تعكس ما حدث ويحدث في زمننا الراهن. وبقدراته اللغوية الفائقة وما حققته - وأننا - من مستوى تعبيري قادر على اكتناه الواقع وإدانته والسخرية به من ناحية وفضح تراكماته من ناحية اخرى. انما باختصار رواية تقوم على النقاش الفكري العيمق، والرواية في اسمى تجلياتها عمل فني يجعل قول الحقيقة ممكناً من دون ان يتعرض القاتل للمساءلة المباشرة. يعطيك عنوان الرواية"دمشق 67"للوهلة الاولى شعوراً بأن وقائعها ستدور حول ما جرى في ذلك العام المشؤوم، وأهمه هزيمة الخامس من حزيران يونيو. الا ان الرواية تكاد تتجاهل ذلك الحديث تماماً، وإن كانت تمر به من بعيد ولا تلامسه صراحة او تقترب من فجيعته. الرواية تكتفي بالحديث عن دمشق لياليها ونهاراتها، شوارعها ونسائها وناسها وانشغالات مفكريها، وما يعانيه المثقف الذي يعيش على الهامش ويزجي وقته بالحديث عن التناقضات الرئيسة والثانوية، والاختلافات والمنازعات الفكرية التي ما تكاد تهدأ حتى تثور. وكأن مثقفي الامة ? يومئذ ? كما هي حالهم الآن في معزل عما يصيب الامة في الصميم، وما تتعرض له من انتقاص في الأرض والكرامة. في الرواية ملمح جنسي يتراوح صعوداً وهبوطاً ويكشف عن مزيد من حالات الاحباط التي عانى منها شباب ذلك الزمن، وعن عجز بطل الرواية وراويها عن توفير الخبز فضلاً عن الجنس الذي يرونه يسير على الارصفة مملوءاً مكتنزاً يستثير رغبات المحرومين ويدفع بهم الى مغامرات شبه طفولية، او الى احلام غرامية خارج الواقع يستفيقون بعدها على خواء الواقع وتداعياته، وما تطرحه ايامه من ظمأ لا يعرف الارتواء"قبل ان تمشي نظرت اليّ. نظرت الى ينبوع من الشفقة واللامبالاة. قبل ان... كانت تقصف بذهول في نسيم الغروب الدمشقي وقد غطّت الانوار الخافية حناياها. كنت أسترق النظر اليها من دون ان اجرؤ على مواجهة صوتها اليابس المخيف: صوت حطاب من اقاصي"الجزيرة"في شتاء بارد ومميت، صوت لا يدل على صاحبه، وانما يحميه. لكأن الكائنات المحيطة بها لا تهاجم الا بالصوت... كدت أضحك؟ ولكن، أضحك ممن؟ وعلى من؟ وها هي قد ادارت ظهرها الناحل لي، قبل ان أقول لها شكراً؟ ورأيتها وهي تبتعد، تشير من جديد بيدها السمراء الرقيقة الى الجهة العكس، وبنبرة صوتها الطالع من القبر تقول: القصّاع هناك. هناك لكأنها كانت تريد ان توقعني في الخطأ مرتين؟ تبدو العلاقة بين الجنس والرواية وثيقة، لكن هذه العلاقة لم تدرس بما فيه الكفاية، ولم يدرك عدد من النقاد بعد ان الحديث عن الجنس في الروايات الجيدة لا يأتي للجنس ذاته، ولا يقصد منه اغواء القارئ او اغراؤه بمتابعة القراءة - كما يظن البعض - وإنما يأتي نوعاً من الترميز لما يعجز الكاتب عن الافصاح عنه او الرغبة في ممارسته. كما هي الحال في هذا العمل الذي يحتل الجنس فيه مساحة لا بأس بها. لكن نظرة نقدية فاحصة تكشف ان الجنس لم يكن هدفاً بقدر ما كان وسيلة او اداة للبحث في امور أبعد من مدى"الجنس"وأكثر أهمية وحضوراً في حياة البشر والحرية والعدل الاجتماعي. وهذا بعض ما تكاد تقوله الكلمات التي تلت هذا المشهد الجنسي القصير وإشاراته والكلمات التي يقولها الروائي على لسان احد ابطال الرواية: "وكأن"ابن الوراق"لم يكن ينتظر مني الا هذا التردد المحبط، قال عندما علم بالامر، وبه نوع من الاعتزاو الغامر بالذات بذات العارف كل شيء: أفضل طريقة لفهم"اشارة ما"هي اعتبارها منهجاً في التعبير لا مجرد اشارة عابرة لا دلالة لها ولا منظور. وبعد ان تنفس بهدوء اضاف بنفاد صبر: وذلك يقيض مقاربتها بوعي، والنظر اليها بحذر من دون الوقوع في اخطار تفسيرها المتسرع. وهو ما يعني ضرورة الاحاطة بخفاياها قبل الاندماج بما تريدنا ان نتدله به، وان نتماهى وإياه. المرأة اذاً، لم تكن سوى رمز لمعنى، والاشارة بعدها الى"القصاع"وهو مكان بالمدينة لم تكن سوى اشارة الى اتباع منهج في التعبير والانتماء. في هذه الرواية اشياء أهم من الشعر والجنس والفكر، شيء يستدعي قدراً أكبر من التأمل واعادة القراءة، وفي ذلك اسماء ابطالها الذين يظهرون ويختفون ثم يعودون الى الظهور. فالاختفاء وفق شروط يمليها تسلسل الاحداث، فاذا استثنينا الراوي الذي لم نعرف له اسماء، وپ"ابن الرواق"وهو اسم تاريخي فإن بقية الاسماء الاهم هي: بكر، عمر، عثمان، علي. واذا ما توقفنا عند مكان الاجتماع اليومي وهو"السقيفة"فإن شيئاً من الاسقاط التاريخي على الحاضر ومتناقضاته يبدو غير مستبعد ولا مستغرب:"في السقيفة، حيث التأم شملنا، من جديد، كان بكر يؤنب احداً لا أراه. لكأنه يريد ان ينتقم من نفسه لرجل الورقة البيضاء التي مزقت، بعنف، أمامه كان يتمتم وهو يريد، في الحقيقة، ان يصرخ: تبددون الناس من حولكم، بدلاً من ان تؤلفوا قلوبهم؟ كيف تفعلون ذلك، يا عمر؟ كان يدق الارض يقدمه الهائلة"أو التي أحسستها هكذا"يدقها في مكانه وكأنه الاسد الهصور. أكان يكتشف للمرة الاولى؟ وهل"يُقبل"اكتشاف متفاوت مثل هذا من قبل"امرئ"يضم العالم بين جناحيه"؟ صرت افكر ساكتاً، وأنا ألاحق العلامات وقبل ان يقول أي منهم شيئاً كان صوته الاجش ينسكب في اصداغنا من جديد: نحن نريد ان نستعين على المشقة بالعدل، وها أنتم تفعلون العكس يا عمر؟.