لا يبدو خليل النعيمي شائعاً لدى قرّاء العربية بالقدر الذي ينبغي ليكون تطلّعهم إلى الحرية مشحوناً بطاقة الإبداع التي يملكها. وليس مترجماً إلى اللغات الأجنبية لتقرأ الشعوب الحضارية هذا الفيض من الضوء الذي يشعّ من عقل العربي ومن شغفه بالحياة بأبهى أفعالها الحضارية السلمية، والإبداعية - المقاومة لأبشع آليات الموت وصوره. حقّق ويحقّق خليل النعيمي الكثير من الإنجازات والخطوات الهامة على العديد من المستويات، في المستوى المعيشي بإنقاذ حياته من الفقر المدقع عن طريق الجهد العلمي ليصير طبيباً جرّاحاً، يعمل في فرنسا. وعلى المستوى الإبداعي ليصير عبقريّ السرد العربي بلا ادعاء، أو حتى محاولة للظهور. كأنّ الزمان العربي يسأل عن خليل النعيمي بينما خليل النعيمي يسأل الكون عن زمن عربي ضائع، ولا يراه إلا في خطواته وأعماله. قلت في مقال سابق: إنّني اكتشفت روايات خليل النعيمي مؤخراً، وهذا التأخّر سمة العربيّ الخاضع لآليات النظام ومؤسساته. ويكفي أن أذكر أنّ روايته: «الرجل الذي يأكل نفسه» قد مُنعت من الطباعة في دمشق عام 1971، لتمنع من التداول عام 1972 حين طباعتها في بيروت، لأقف على شيء من أسباب هذا التأخّر، ولا أعرف إذا ما كانت دراستي عنها والمنشورة في مجلة نزوى العدد 91، قد أوفتها حقّها – حقّ القراءة من قِبلي، ولا سيما أنّ ما يكتبه الروائيون العرب الجدد الآن، هو محاولة جادّة، للحاق بأسلوبها وتجربتها الرائدة في تفكيك الهزيمة العربية والتأخّر العربي وكشف أسبابهما. أراد محمد أركون أن يطلق على عصر ما بعد الحداثة وصف «العقل المنبثق».. أعتقد أنّني أستطيع أن أطلق هذا الوصف على خليل النعيمي. مع أنّني لم أقرأ له شيئاً نظرياً، وما حاجتي إلى ذلك؟، وأولى رواياته - الرجل الذي يأكل نفسه- تسرد الحداثة بأفكارها الوجودية الكبرى!، لترى استحالة تمثلّها في مجتمع، مهزوم، ويكاد يكون بلا وجود كالمجتمع العربي. وتأتي روايته «دمشق 67» لكي تبحث في أسباب هذه الاستحالة، فتفكّك نظرية السلطة العربية بأعقد أساليبها المستبدة، المحتالة والمخادعة حتى لمفاهيم الهوية والتاريخ والفكر والثقافة مهما كان شكلها ومضمونها. وإذا كانت الرواية الأولى تنقض شكل الاستبداد حتى في شكله الإبداعي الذي أنتج أوهام الحداثة العربية، حتى تلك التي كانت تدّعي الهدم والتغيير بطرق وسبل خادعة ووهمية، طالما تنطلق، بدورها، من رؤى كلية وغيبية كالرؤى الأسطورية، المنبتة من حضورها التاريخي الغارق في البدائية والقدم، لتقحم إلى عصر ليس عصرها، وتُلبس أجساداً ليست لها، وما يعنيه ذلك من تخلّف الرؤى وأشكالها وضرورة تغييرهما معاً. فإنّ روايته «دمشق67» عملت على ذلك من خلال سرد جديد يكشف وعي السلطة من خلال تعريتها بأساليبها، وبناها البلاغية والرمزية الزائفة، ليعيد تشكيلها، بحوار عقلاني، متعدّد المستويات والخطابات بين مونولوج الذات، وفكرها، وكشف السلطة ومحاولة تغييب هذه الذات وتشويه عقلها وما تفكّر به من جهة. ومن خلال عمل نادر تقوم به هذه الذات المبدعة بصهر الأجناس الأدبية في شكل الرواية من جهة أخرى. وربما تبرز أهمية هذا العمل وندرته في كون خطابه من لدن خليل النعيمي وحده، لدن فكره ووعيه الجمالي في انبثاق سرديّ واحد. ربما يدفع إلى الثورة، ولكن لا يورطها في انفعال الذات المتمردة غير الواعية لإمكانية الثورة بسبلها السلمية والعقلانية – العقلانية في نقلتها التاريخية من طور إلى طور أكثر تحرّراً! ربما ذكرت الوعي الجمالي لحضوره المؤكد لدى جميع المبدعين - وطبعاً ليس بشكل متشابه ومتساوٍ- وربما فيما تقدّم من كتابتي هنا تظهر تلميحات إلى تركيب هذا الوعي وتعدّد مشاغله ومهامه. غير أنّ عمل خليل النعيمي يذهب أبعد بكثير من مقولة فريدريك نيتشه في كتابه (مولد التراجيديا): «الوجود والعالم لا يمكن تبريرهما سوى كونهما ظاهرة جمالية فقط»، يذهب خليل النعيمي أبعد من ذلك حتى في سفره وترحاله في دول هذه الأرض ومدنها التي يرغب أن تكون قريته الكوسموبوليتية الصغيرة على ما يبدو. فهو لا يبرّر هذا الوجود بالجمال وإن كان يرى فيه متعة ودافعا للحركة. وقد تبدو حركة خليل النعيمي في المكان معتادة، حتى لو أراد أن يمنحها معنى مختلفاً كلقاء روح العالم جسدياً، أو كما يرى في نص «بخارى.. جمال الروح» هذا اللقاء ومضاً. وربما سيكون إثراء لنا –نحن القراء- أن يجد هذا الومض معادله الإبداعي في سفر الكتابة. وهذا يفسّر تجدّد الأدبية – حسب تودورف- في سردياته دائماً، فلا يمكن قراءة رواية له على نمط رواية أخرى. إنه يكتب ومضاً، على شكل انبثاقات سردية لا تكفّ عن استكشاف المزيد من الوميض وتوسيع إشعاع إشراقاته. أليس هذا الإشراق الإبداعي هو الشعر؟ وإن كان كذلك، لماذا يقول خليل النعيمي في نصه عن رحلة بخارى: «أحب أن أبقى... في اللاانتماء إلى تاريخ مملوء بالشعر وبالغيب»؟. من الواضح أنّ ما ينكره خليل النعيمي على الشعر هو ميتافيزيقته. وخليل النعيمي يريد الحضور في الوجود الفيزيقي حتى من خلال شعره. وهذا ما يمكن قراءته في كتابه الأول (صور ردود لأحد أفراد العالم الثالث) منشورات دار الكندي، دمشق، 1968..، وكان شعراً، فهل غاب الشعر عن الحضور في رواياته؟. سؤال يجيب عليه خليل النعيمي من خلال هذه الروايات ذاتها. حتى أنّني كتبت عن هذه الشعرية –كما يراها منظروها من أرسطو حتى الآن - من غير أن أسميها. ولكن، بعد قراءتي لروايته (القطيعة)، أرى حضور الشعر في هذه الرواية أكثر توهجاً وغناءً. إنه حضور مباشر، لا على سبيل البناء ولا على سبيل الأسلوبية الشعرية أو الأدبية. إنه حضور جسدي للشعر بلحمه ودمه. و لا أستطيع حياله سوى التفكير مجدّداً بكلّ ما قاله منظرو الشعر والشعرية حتى أستطيع مقاربتها. مقاربتها التي تجعلني على تماس مباشر مع وميض اللغة العربية في أبهى تجلياتها الإبداعية التي أعمل عليها حالياً. * شاعر سوري