لئن كان من الصعب الفصل بين مسرح صموئيل بيكيت وعالمه الروائي نظراً لالتحامهما بعضاً ببعض، لغة ومناخاً وشخصيات، فانّ هذا الكاتب الفريد استهلّ حياته"الأدبية"روائياً، وأولى رواياته، وعنوانها"مورفي"صدرت في العام 1938 فيما صدرت أولى مسرحياته"المعلنة"وهي"في انتظار غودو"في العام 1948. في هذا العام نفسه كان بيكيت يضع اللمسات الأخيرة على ما يحلو له أن يسمّيه"الثلاثية"وهي تضم الروايات الثلاث:"موللوي"1947،"مالون يحتضر"1948 وپ"اللامُسمّى"1949. وعندما أنهى هذه الثلاثية قال:"مالون خرج من موللوي واللامسمى من مالون". لكنّ بيكيت استبق هذه الثلاثية برواية أخرى هي"وات"1944 وسيكون أثرها بيّناً في الروايات الثلاث، خصوصاً أنها تقدم أنموذجاً أول لشخصية"المتشرد الأبدي"الذي سيظهر كثيراً في روايات بيكيت ونصوصه المسرحية. كان لا بدّ لصموئيل بيكيت من أن ينضم كروائي الى موجة"الرواية الجديدة"في مطلع الخمسينات. وقد وجد فيه رواد هذه الموجة من أمثال ألان روب غرييه وميشال بوتور ومارغريت دوراس وناتالي ساروت وسواهم"زميلاً"ساهم قبلهم في الثورة على الرواية التقليدية وعلى معطيات الفن الروائي الكلاسيكي. وقد رفض ملامح"الراوي"الكلّي العلم أو المعرفة، وملامح الشخصية الجاهزة والعقدة والبعد الكرونولوجي، وباحثاً عن الناحية المجهولة في اللغة أو عمّا لا يُقال، مسائلاً الكتابة نفسها بغية التعبير عن قلق الانسان المعاصر في عالم هو أشبه بالمنفى في معنييه الداخلي والخارجي. إلا أن بيكيت لم يدم طويلاً ضمن هذه الموجة أو الحركة التي لم تعمّر أصلاً كثيراً. وهو لم يعمد الى العمل التنظيري لپ"روايته الجديدة"مع أنه كان كتب سابقاً بحثاً عن الروائي الفرنسي مارسيل بروست أيام كان يعمل مترجماً من الفرنسية الى الانكليزية. كانت روايات بيكيت"غريبة"عن الفن الروائي وعن أعمال جماعة الرواية الجديدة. فهو آتٍ أصلاً من عالم آخر يحتل فيه جيمس جويس وفرانز كافكا والعهد القديم حيّزاً مهماً. وهو آتٍ أيضاً من حياة يمتزج فيها الدين بالعبث والألحاد، ويلتقي فيها المسيح مع نيتشه... وبدت موضوعاته الأثيرة مختلفة بدورها عن موضوعات"الرفاق": الانتظار، العزلة جسداً وروحاً، الاغتراب الداخلي، الموت، التشرد، اللاتواصل، السقوط، الذكرى، الزمن الذاتي... أما شخصياته فهي أشد غرابة من موضوعاته، انها ظلال شخصيات، صور لأناس حاضرين وغائبين في الحين نفسه. انها أيضاً أصوات تجسد أحوالاً مختلفة، أصوات لا تكف عن الكلام، قتلاً للزمن وتحقيقاً لذواتها التي لا تتحقق. ولعلّ الطابع"الغريب"الذي حملته روايته الأولى"مورفي"1938 جعل أكثر من أربعين ناشراً يرفضون نشرها في لندن، لكن دار"روتلدج"وافقت أخيراً على طبعها. وعندما نقلها بيكيت الى الفرنسية رفض الشاعر الفرنسي ريمون كونو نشرها في دار غاليمار. لم يستوعب الناشرون طبيعة هذه الرواية وثورتها على النمط الروائي التاريخي والسائد. ولم يستطيعوا أن يلموا بملامح الشخصية المضادة تماماً ولا اللعبة اللغوية التي كان بدأ بيكيت يخوضها وكأنها مغامرة مجهولة العواقب. تمثل"الثلاثية"التي كان بيكيت يودّ دائماً أن تطبع في جزء واحد، ذروة"الفن"الروائي كما تجلّى لدى بيكيت. انها المرحلة التي تطل على ماضيه وعلى مستقبله. وقد بلغ عبرها حالاً من التفرّد الذي وسم عالمه ككلّ. جهوده الأولى تصب فيها، ومنها تنطلق محاولاته التالية التي حوّلت النص الروائي القصير نصّاً مفتوحاً وملغزاً. كانت هذه الثلاثية"المعبر"التجريبيّ الذي اجتازه بيكيت الروائي ليصل الى"نصّ"مختلف شديد الاختلاف تجلّى في روايات مثل:"رفقة"،"سيئ الرؤية سيئ القول"وسواهما. "موللوي": الرواية - المونولوغ كانت"موللوي"أولى روايات"الثلاثية"مثلما كانت آخر رواية في سلسلة رواية"مورفي"1938. ويعدّها بيكيت الرواية الأولى التي تستوحي تجربته الشخصية من غير أن تكون سيرة ذاتية وان مقنّعة. بل هي تتمرّد على"السيرة الذاتية"في لعبة تجعل الأدب مثار تساؤل أو شك. انها رواية غريبة حقاً، وما يلفت فيها أنها ذات فصلين لا يبدو الواحد منهما على صلة بالآخر ظاهراً. الفصل الأول هو عبارة عن مونولوغ "موللوي"والثاني هو مونولوغ"موران". يرقد"موللوي"في الغرفة التي ماتت أمه فيها، عاجزاً عن الحركة، ينكب على كتابة صفحات، يأتي زائران كل يوم ويتسلّمانها. والصفحات المتوالية ستكون صفحات الرواية نفسها. الا ان هذه الرواية ستنتهي مثلما بدأت ولكن"موران"هو الذي ينهيها. لا يخفي"موللوي"أنه متشرّد عجوز، يرقد في غرفة أمه التي ماتت للتو، وأنه تلقى"أمراً"بالكتابة. وهو تبعاً لهذا الأمر، يسرد ما يذكّره بحياته المضطربة والغامضة. انه الآن متشرد أو صعلوك أو"كلوشار"كما يقول الفرنسيون، عجوز يستعين بعكّازتين كي يتمكن من المشي. ولديه دراجة هوائية يستخدمها على طريقته وغالباً ما يتوقف للاستراحة. مرة توقفه الشرطة وسرعان ما تسرّحه بعد الاستماع الى أجوبته المبهمة، كأن يقول إن لا بيت له ولا أوراق ويعجز عن لفظ اسمه... ومرة يستقل درّاجته بحثاً عن بيت أمه فيقع بالدراجة على كلب ويقتله. لكن صاحبة الكلب التي تفتن به، تصرّ عليه أن يبقى لديها. يقيم عندها فترة ويعيش بحرية بين غرف المنزل والحديقة، كما لو أنه يعيش حياته السابقة، لا يبالي بأحد ولا يهتم بشيء. ثم يرحل من دون أن يُعلم سيدة المنزل، تاركاً لديها درّاجته ولكن محملاً بآنيات فضية. يتجه الى شاطئ البحر، رافضاً موقتاً زيارة أمه. لكن"الصوت"السري يحثه مرة أخرى على العودة الى بيت الأم تخلصاً من البطالة. يرجع الى المدينة، وهناك يكتشف ان وضعه الجسدي قد زاد سوءاً. ساقه القاسية تقلّصت فيما فخذه التي كانت لينة أصبحت قاسية بدورها. وعندما يجد أن عليه أن يجتاز غابة، يهم في اجتيازها من دون أن يفكر بالأمر. ولماذا التفكير بالأمر؟ يسأل نفسه. في الغابة يلتقي رجلاً عجوزاً ومستوحداً مثله، ينهال عليه ضرباً بالعكازة ويلقيه أرضاً. وبعد أن ينهض يخترع طريقة للزحف على الأرض مستعيناً بعكّازتيه... أما"موران"صاحب المونولوغ الثاني، فلا يشبه"موللوي". انه يملك بيتاً ومزرعة دجاج وقفران نحل وخادمة، وله ابن في الخامسة عشرة. رجل يمكن وصفه بالمهووس. ذات أحد يطرق بابه"رسول"من قبل رئيسه طالباً منه القيام بمهمة نافلة وعادية: ايجاد"موللوي"، بل أن ينطلق في البحث عنه للفور مع ابنه. وعلى رغم تذمره من هذه المهمة ينطلق مع ابنه في منتصف الليل ويجتازان سياج الحديقة مشياً، متحاشيين الطرق الكبيرة، ومتجهين نحو البقعة التي يمكن ايجاد"موللوي"فيها. يصاب"موران"بألم في ساقه ولا يعود قادراً على طيها، فيرسل ابنه الى أقرب مدينة لشراء درّاجة هوائية. يغيب الابن ثلاثة أيام، وفي انتظاره يعيد"موران"التأمل في نفسه وحياته، وينكب على التهام علب السردين التي جلبها معه من غير أن يفكر بالغد. ثم يقتل رجلاً يصادفه وإثمه الوحيد أنه يشبهه. وعلى الطريق يختلف مع ابنه الذي لم يبق لديه أي حترام لوالده ولا أي خشية منه. ويتعاركان وينكسف الأب ويكمل طريقه وحيداً ليصل الى"بالليبا"، بلدة"موللوي". يبقى"موران"هنا، يأكل ما يتوافر له وينام في العراء. ثم يأتيه من جديد"رسول"سيّده القدير والسرّي ويبلغه أن يعود الى بيته. ويقضي في طريق العودة فصل الشتاء. وعندما يصل الى بيته يجده مهجوراً. المزرعة والقفران خربت والابن هاجر. يكتب"تقريره"الذي هو النص نفسه، منهياً هذه"المهنة"، ثم يترك البيت سائراً على عكّازتين، متشرداً... لقد تحوّل هو نفسه الى"موللوي". فهو طوال رحلته، كان يظن أنه يبحث عن نفسه فيما هو يبحث عن"موللوي". بحث عنه في الخارج ولم يجده إلا في ذاته، بعد أن تماهى به شخصاً معوقاً. ومثلما لم يجد"موللوي"إلا ذكرى أمه، لا يجد"موران"إلا ذكرى"موللوي". "مالون يحتضر": الأنا"آخر" تبدأ رواية"مالون يحتضر"1948 الجزء الثاني من الثلاثية المفترضة من حيث تنتهي رواية"موللوي"بل من حيث ينتهي"موللوي"نفسه في حال من الجمود أو السكون. راقداً على ظهره في السرير، يشعر"مالون"أنه سيموت قريباً موتاً كلياً. منذ بضعة أيام لم تعد تأتي"الخادم"العجوز والمجهولة لتملأ قصعة الشورباء ولتفرغ المبولة التي صار"مالون"يدفعها صوب باب الغرفة بعصاه التي بفضلها يكتشف الأشياء أو يقرّبها منه ويبعدها. يقرّر"مالون"الذي يجهل لماذا صار مقعداً، أن يواجه احتضاره عبر سرد أو كتابة قصص مختلفة في موضوعاتها. القصة أو الحكاية الأولى والأخيرة تدور حول رجل يدعى"سابوسكا"، يصبح اسمه، في القسم الثاني من القصة"ماكمان"، وفق قرار بسيط من الراوي. والد"سابوسكا"أو"سابو"يعمل بائعاً في محلّ."سابو"الذي حاول أهله أن يعلموه لا يهتم بأي أمر. يكبر"سابو"ويصبح عجوزاً ويتحوّل الى"ماكمان": رجل متشرد كلوشار ذو قبعة، قرين"مالون"نفسه، القادر أن يمشي خارج الغرفة... هنا يقطع"مالون"الحكاية متأملاً في نفسه. وعندما يحاول أن يبدّل موقع سريره تقع العصا من يديه. ويصبح عاجزاً عن تحريك أشيائه. لكن القلم والأوراق ما زالت بين يديه وما زال قادراً على"الحركة"المتوهّمة. تتواصل الحكاية أو القصة:"ماكمان"في مأوى والى جانبه امرأة عجوز تدعى"مول"تخدمه وتسهر عليه. يقع"ماكمان"في حب العجوز ذات السنّ الواحدة. عندما تموت"مول"يحل محلها شخص يدعى"لوميل": رجل قاس، استغلالي ودنيء. ينظم"لوميل"نزهة لپ"الضيوف"الخمسة الذين ينزلون في المأوى في عربة ثم في زورق متجهاً بهم الى جزيرة تحوي آثاراً سلتية. خلال هذه الرحلة يتخرّب كل شيء ، يختفي"ماكمان"وكأنه امّحى، جاذباً في اختفائه"مالون"نفسه..."مالون"الذي لم يعد يقول شيئاً. هكذا واجه"مالون"العجز والجمود بالكلمات، بالسرد والقص، بابتداع الشخصيات. وجد"مالون"نفسه على حافة الموت أو ما يسمّيه:"عشية الرحيل": وانطلاقاً من وعيه هذا"الاحتضار"ساعياً عبر السرد الى أن يكون"آخر"كما يقول هو نفسه، أي أنه سعى الى تأجيل موته عبر تحوّله شخصاً يسرد أو يحكي. "اللامسمى": الراوي - الصوت يصعب اختصار رواية"اللامسمى"1949 فعلاً. وقد يكون الكلام الممكن عنها أقرب الى طبيعتها الملغزة نفسها. فالاستحالة المزدوجة لقول الشيء وقول"الأنا"تخلق هنا ما يشبه"المأزق". وهو"المأزق"الذي كثيراً ما عرفه صموئيل بيكيت. تحاول الرواية أن تقول هذا"المأزق"أو هذا"المانع"أو"العسر"ولكن من خلال العجز عن القول. لا شيء يحدث في هذه الرواية كما في الكثير من نصوص بيكيت. وكان هو أشار أصلاً في مطلع النص قائلاً:"في النهاية، لا شيء سوى الغبار، ما لا يُسمى". ليس من"أنا"هنا، ليس من فعل"حصل"ولا فعل"كان". بل ليس من"فعل"أيضاً". الا ان"الأنا"أو ضمير المتكلم الذي يستهل فعل السرد بداية"اللامسمى"، لا يعرف مَن هو ولا أين هو ولا منذ متى يروي. جامد وتائه في الظلام، لا نقطة استدلال تسمح له أن يعرف مثلاً في أي وضع هو، بل في أي وقفة. هل تراه واقفاً ورأسه الى الأعلى مثل كرة أم تراه نائماً على ظهره، ساقاه مرفوعتان وعيناه مغمضتان؟ ولكونه محكوماً عليه أن يتخيل نفسه فهو يرى ذاته"كرة"تتكلم، أو"بيضة"ناعمة الملمس، يتخللها ثقبان."دمى متحركة"، بحسب تسمية"مالون"وپ"موللوي"وپ"مورفي"وپ"موران"وپ"مالون"نفسه وظلال لا أسماء لها، جميعهم يدورون من حوله بصمت مثل كريات لا تصطدم بعضها ببعض. ماذا يريد هؤلاء البكم والعميان الذين يحاولون جذب انتباه هذا الشخص، من دون أن يعلم أحد إن كانوا موجودين في داخله في حال من الاستيهام فانتاسم أو الهلوسة، أم هم في الخارج وكأنهم أشباح... لكنّ هذا"الشخص"الغامض يتذكر شخصاً آخر أو يتخيّله وكأنه قرينه: انه الشخص ? الجذع الذي يدعى"ماهود". ولا يكف هذا"الشخص"عن الكلام، فهو ليس سوى فم يتكلم. ويقول:"عليّ اذاً أن أواصل الكلام، سأواصل، يجب أن أقول كلمات، ما دام هناك كلمات، يجب أن أقولها الى ان تجدني هي نفسها، الى أن تقولني هي نفسها". لعلّ رواية"اللامسمى"ثالثة الثلاثية، هي بمثابة الخطوة التي خطاها بيكيت بجرأة ماضياً في تجربته الروائية ذات البعد التجريدي والاختباري. وهذه التجربة ستجلى في نصوص"مفتوحة"تجمع بين السرد والهلوسة والغرق في اللغة حتى الصمت.