لم تعش تنظيمات وحركات سياسية على فكرة، مثلما عاشت على حلم الثورة الشعبية والعصيان المدني، بصورة أدت الى انهاء بعضها وتعثر بعضها الآخر حين اختلت قضية التغيير في نموذج واحد من المستحيل حدوثه، وفي الرهان على حالة جماهيرية لن تأتي، وتركت مساحات أخرى للعمل كان يمكن ان تؤتي ثمارها في حال تخلصت حركة مبشرة، كحركة"كفاية"، من همّ صدَّرته الأدبيات الماركسية التقليدية في الثورة والتغيير الثوري، وشكّل ليس فقط جزءاً من ذكريات الماضي إنما أيضاً استثناء نادراً في تاريخ خبرات التغيير في العالم، بما فيها البلدان الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية، والتي لم تذهب الى الشيوعية بثورة، ولم تغادرها أيضاً بثورة. والسؤال المطروح على القوي الاصلاحية الجديدة، خصوصاً التي كانت واعدة، يكمن في البحث عن طرق ووسائل جديدة للتغيير والإصلاح، تتجاوز خطاب الثورة المقبلة ومظاهرة المئة ألف مواطن، وعصيان الملايين في الشوارع، لأن الهدف هو الإصلاح وليس العصيان المدني. لقد دافع بعضهم عن نموذج استثنائي في تاريخ حركات التغيير في العالم، وباستثناء الثورة الفرنسية والروسية والايرانية، لم ير العالم ثورات شعبية كبرى تتحرك فيها الجماهير من أجل إسقاط النظام القائم، فدول أوروبا الغربية تحولت نحو الديموقراطية عبر عملية تطور داخلي عرفت أشكالاً متنوعة من الاحتجاجات الشعبية مثَّلت عنصر ضغط على النظام دفعت قوى وتيارات اصلاحية من داخله الى اجراء اصلاحات متدرجة شكلت ما عرف بالثقافة السياسية الديموقراطية لمعظم بلدان اوروبا الغربية. اما البلدان التي شهدت تحولاً"متأخراً"نحو الديموقراطية، كالبرتغال واسبانيا، فهي لم تكن ايضاً نتيجة ثورات شعبية او عصيان مدني، بل عبر تراكم احتجاجات شعبية متفرقة، شبيهة بالتي نشهدها في مصر، ودفعت بقوى اصلاحية داخل النظام الى تبني الديموقراطية، معتمدة على دعم جيرانها الاوروبيين للديموقراطية الوليدة. بلدان اوروبا الشرقية صنعت نظمها الاشتراكية لعبة تقسيم النفوذ بين السوفيات والاميركيين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنهتها ايضاً البيئة الدولية لعالم ما بعد الحرب الباردة، ولم تعرف هذه البلدان نموذجاً واحداً للثورة الشعبية او العصيان المدني للتخلص من استبداد نظمها الاشتراكية، بل ان قلعة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي انهارت من داخلها وعبر"اصلاحات"بدأت من داخل النظام على يد الزعيم الشيوعي ميخائيل غورباتشوف وليس عبر الثورة الشعبية. وإذا نظرنا الى بلدان اميركا اللاتينية سنجد انها جميعها لم تعرف نموذجاً واحداً للتغيير من خلال العصيان المدني او الثورة الشعبية، بل ان كل تغيراتها"الثورية"كانت إما عبر انقلابات عسكرية، او عبر انتخابات حرة كما حدث في تشيلي مع الاشتراكي سلفادور الليندي الذي وصل الى الحكم بالانتخاب وأسقطه الاميركيون بالانقلاب، والتحول نحو الديموقراطية في هذه البلدان جرى أساساً عبر ضغوط مارستها قوى معارضة من خارج النظام، وقدمت في الوقت نفسه خطاباً سياسياً ديموقراطياً نجح في طمأنة غالبية من هم داخل مؤسسات الدولة، معلنة انها ترغب في مواجهة الاستبداد لا النظام برمته. الحالة المصرية بدت وكأنها وصلت الى طريق مسدود، فالمؤكد ان هناك حراكاً سياسياً قد حدث، ولعبت فيه"كفاية"دوراً اساسياً، لكنها اختزلت عملية التغيير في وسيلة واحدة هي التظاهر تمهيداً لدفع الجماهير نحو الثورة او العصيان المدني، والمدهش ان تظاهرات"كفاية"التي ضمت في البداية آلافاً عدة انتهت وهي تضم العشرات، ومع ذلك ما زال البعض متمسكاً ب"التظاهر كخط ثابت"من دون البحث عن وسائل أخرى تساعد في إجراء إصلاح سياسي حقيقي. وربما كانت الإضافة الرئيسة التي قدمتها"كفاية"أنها مثلت نمطاً جريئاً وجديداً في العمل السياسي، تجاوزت به خطاب الأحزاب القانونية، واعتبرت ان ازمة النظام السياسي تكمن في جموده، ورفعت شعار"لا للتوريث لا للتمديد"، لكنها رفعت شعارات سياسية صارخة، بدت أقرب الى الاحلام، وبدت في نظر قطاع كبير من نخبة الوسط الاصلاحية في مصر حركة تصرخ وتحتج طول الوقت، ولم تستطع ان تقنعهم بأنها بديل للنظام، انما هي فقط صوت احتجاج. المفارقة ان"كفاية"المتهمة بأنها نخبوية رفعت شعارات سياسية شديدة الثورية والراديكالية، في حين ان احتجاجات الطبقات الشعبية المصرية، وعلى رأسها العمال، كانت أكثر هدوءاً وحكمة وبساطة، بصورة أربكت حسابات الحكومة، وفي الوقت نفسه ابتعدت تماماً من خطاب القوى اليسارية الجديدة والقديمة، ومعها خطاب"كفاية"، وبدا الاثنان كأنهما عالمان منفصلان، فالعمال لا يفهمون خطاب المعارضة وشعاراتها الثورية التي تتحدث عن طبقة عاملة في خيالهم غير الموجودة في الواقع. المؤكد أن مصر مقبلة على مرحلة صعبة، وأن الأخطار التي تهدد النظام لن تكون في ثورة شعبية او عصيان مدني تقوده تنظيمات سياسية، إنما في تراكم مجموعات من الاحتجاجات العشوائية وشبه المنظمة وإذا لم تخرج نخبة سياسية جديدة قادرة على التواصل او على الاقل الاستفادة من الاحتجاجات المتصاعدة لتغيير الحكم لا هدم النظام، فإننا سنصبح على أعتاب فوضى غير خلاقة بكل تأكيد. الدكتور عمرو الشوبكي - بريد الكتروني