قبل ثلاثة أسابيع، قرعت إدارة التحرير الاقتصادية في صحيفة "داي زيت" الالمانية ناقوس الخطر. وسألت قراءها:"هل السلطة الرابعة معروضة للبيع في مزاد علني؟". وأعقب التحذير اعلان معظم مالكي صحيفة"سودوتشي زايتونغ"نيتهم بيع حصصهم في الصحيفة. ومن المحتمل أن تنتقل ملكية الصحيفة"الوطنية"، وهي واحدة من أفضل الصحف الألمانية، الى مجموعة شركات تجارية، أو الى شركة اعلامية كبيرة. وشأن معظم الصحف الألمانية، تجاوزت"سودوتشي زايتونغ"أزمة انهيار سوق الاعلانات، في مطلع 2002. وعلى رغم منافسة الصحف الالكترونية، وتغير عادات القراء، فأرباح الصحف الورقية الى ارتفاع. وفي الاسبوع الماضي، نشرت صحيفة"داي زيت"العنوان الأول التالي:"صراع إدارات وول ستريت المالية مع الصحافة الأميركية". ومثل هذه العناوين هي دليل على الخوف من اضطرار الصحف الوطنية الألمانية الى التخلي عن معياري"جودتها"التقليدية، أي تلبية حاجة القراء الى المعلومات وتحقيق مالكي الصحف ربحاً. ولكن ألا يعني إقدام الصحف على تخفيض عدد صفحاتها المرتفع، ومحافظتها على ربحها في آن، ان هذا التخفيض يرضي قراءها، ويروق لهم. وهل في وسع الصحافة التذرع بالنوعية والجودة لتقييد حرية اختيار قرائها موضوعات قراءاتهم من طريق اختصار الموضوعات والمعالجات؟ وهل في وسع الصحف فرض التحليلات الجدية على القراء عوض اخبار عالم الاستعراض؟ وهذا النزاع حول طبيعة سلع الثقافة والمعلومات يبعث شعاراً يزعم أن"التلفزيون هو جهاز تجديد الصور". وهذا الشعار رافق ظهور التلفزيون في الولاياتالمتحدة. وحملت صور البرامج التلفزيونية على السوق، وحمل رواجها، على احتكام المنتجين الى السوق وغواية الاستهلاك. ولا ريب في ان نظامنا السمعي والبصري يحاول تقليل الأضرار الناجمة عن ارتباط الإنتاج التلفزيوني بالسوق والاستهلاك. ولا ريب، كذلك، في أن أحكام المحكمة الدستورية، وقوانين تنظيم الإعلام المناطقية والمحلية، تلزم الإعلام الإلكتروني الجماهيري مراعاة مفهوم الإعلام. فمهمة وسائل الاعلام لا تقتصر على تلبية حاجات جماهير المستهلكين الى المواد الترفيهية. وجمهور البرامج هو من متداولي السوق، أي مستهلكي سلعها. وهو، كذلك، جمهور من المواطنين وأصحاب الحق في المشاركة الثقافية والاطلاع على الحوادث السياسية وفي الاسهام في صوغ الرأي وبلورته. وينبغي أن تكون البرامج التي تراعي الضرورة الحقوقية هذه في حل من التعويل على دعم رعاة البرامج والاعلانات. ويقتضي هذا أن تكون العائدات الضريبية المخصصة لتمويل هذه البرامج في منأى من كساد الوضع الاقتصادي او ازدهاره. ويحدد الحق العام أطر عمل وسائل الاعلام الالكترونية. وعليه، هل يصح اعتبار الاطر القانونية الخاصة بالإعلام الإلكتروني نموذجاً يحتذي عليه تنظيم الصحافة المكتوبة"الرصينة"؟ وبحسب دراسات في علم الاتصالات، تؤدي الصحافة الجيدة دور"الوسيط الموجه". فالراديو والتلفزيون وغيرهما من وسائل الاعلام تنهل في تغطيته الأخبار والتعليقات السياسية، وفي تناولها الموضوعات المتفرقة، من صحافة"العقل والتحليل". وتطاول سيطرةُ المستثمرين الماليين على الصحف، وهم يقتصر همهم على جني الأرباح السريعة، دوائر العلانية السياسية. فتضعف دوائر العلانية أمام الميول الشعبوية، وتعجز عن أداء دورها المفترض في دولة حق وقانون ديموقراطية. والحق ان وسائل الاعلام العلانية والعامة تفقد الحيوية الاستدلالية والمنطقية الخاصة بها حين تحول القيود المالية دون سيولة المعلومات وتدفقها، ودون تركيب هذه المعلومات تركيباً منطقياً وعقلانياً. ويفترض هذا النوع من الاستعادة، وربط المعلومات بسياق واسع ومتماسك، خبرة كبيرة. والاستعانة بهذه الخبرات باهظ التكلفة. فالسيلان الاعلامي البري، في ظل غلبة وسائل الإعلام الجماهيري على الرأي العام، يصادر لغة المناقشة والمخاطبة التي تحاكي المداولات القضائية والنيابية. وهذه المناقشات هي جزء راجح من دائرة العلانية السياسية. فهذه الدائرة تجمع بين المناقشات والمفاوضات الدائرة في دوائر الدولة، وبين التواصل مع الناخبين المحتملين. وتسهم دائرة العلانية في صبغ أعمال الدولة بالصبغة الديموقراطية. وهي تتيح اختيار ما يجب أن يتناوله القرار السياسي. فالإعلام العلني والعام يطور توجهات متباينة ومختلفة. ويتولى تباينها واختلافها بلورة الرأي العام، وصوغ إرادة المواطنين. وهي تُلزم النظام السياسي بالشفافية مماشاة الارادة الشعبية. وتعجز دائرة العلانية في غياب صحافة رأي موثوق في تعليقاتها المتوازنة، عن الإلمام بالدور المناط بها، واستنهاض الروح الديموقراطية. وعلى نحو ما تتولى الدولة تأمين حاجات المواطنين من الماء والكهرباء والغاز، على الحكومة الديموقراطية حماية الصالح العام، وخصوصاً الصحافة الجيدة. عن يورغين هابرماز، "لوموند" الفرنسية، 22/5/2007