تكاد معضلة الصحافة، الموكلة بالعلانية وبدائرتها، في تناولها لما تستمر بعض الصحافة العربية على تسميته ب"أسرار الآلهة" و"عيون" و"أرصاد" و"أسرار"، ورطة حقيقية ومزمنة. فإذا تولت هذه الصحافة إذاعة الأخبار عن الوقائع والحوادث، على اختلاف معانيها المحتمل، وعمدت إلى تعليلها وتأويلها على أنحاء مختلفة ومتضادة، أسهمت على مقادير متباينة في توسيع دائرة العلانية، وفي إخراج القواسم المشتركة بين المصالح، وكتلها وأحلافها، من المضمر إلى البيان. ومثل هذا العمل يتفق مع مفهوم عن الصحافة تبلور في زمن ينسب إلى "الأنوار"، وإلى "العقل" على حسب الألمان، وتحدرت الديموقراطية والديموقراطيات منه. ومثل هذا العمل، من وجه آخر، هو نفسه بعض ما يسعى العمل في تحقيقه ومجيئه. فهو وجه قائم وناجز من تغليب العقل والحرية والعدالة، والجامع العام والمشترك، على الحياة العامة أو الحياة السياسية، وليس دعوة من غير طائل ولا إنفاذ إلى تغليبها جميعاً. فالعلانية، على خلاف السر، هي مبنى أول من مباني السياسة التي تدعو العلانية إليها، وقرينة على حقيقة هذه المباني وعلى صفتها. وقد تتولى الصحافة أمراً آخر هو إذاعة وقائع وحوادث من ضرب خاص. فلا تكثر الروايات والأخبار والمصادر في شأن الوقائع والحوادث بل تقتصر على رواية واحدة، محكمة، لا تقبل التأويل ولا التعليل. وإذا أوِّلت أو علِّلت نهض إلى الأمر جماعة مختصة. وكان تأويلها واحداً أو مأذوناً، وكان جزءاً مما تؤوِّل وتعلل، فلم يجز حمله على نظر مستقل ولا تفسيره دعوة إلى مناقشته والإحتجاج عليه أو له إذا كانت الحجج له غير الحجج التي يرتضيها صاحب القول أو الرأي أو الفعل. وكان الضرب الثاني من الصحافة هو الذي عرفت به الأنظمة الكليانية الشمولية أو التوتاليتارية. فهذه الأنظمة، شيوعية كانت أو فاشية، أولت الدعاوة مكانة عالية، وأوكلت إليها تلقين الناس "نظرة إلى العالم"، تتفق مع غاياتها التي تتوسل إليها بتأويل العالم وحوادثه على نحو خاص - فهي حسبت أن "الأفكار" تملك عقول الناس، وتتحول إلى قوة "تاريخية"، على قدر ما يتطوع "المثقفون" لصوغها وبثها والجمع عليها. فولدت الصحافة الشيوعية والسوفياتية و"التقدمية" على خطاها، وراء حجاب صفيق من الكلام الضعيف الدلالة، نوعاً من "الإعلام" عجيباً سماه الخبراء الغربيون، وأولهم الأميركيون، "الكرملينولوجيا"، أو علم "حوادث" الكرملين، مقر أرباب السلطان الحزبي. فما تنم به هذه الصحافة، وتخبر عنه، ليس الحوادث الكثيرة التي تضطرب في المجتمع، ولا الآراء المختلفة التي تثيرها الحوادث هذه أو وجوه التعليل التي تدعو إليها - فكل ما ينم بكثرة أو باختلاف يُحتكم فيه إلى الحجج المعلنة تنكر الدعاوة وجوده وحصوله -، بل مراتب السلطة وموازين القوة. فهي صحافة مرمَّزة، مرموزها الأول، وربما الأوحد، هو حال العلاقة بين أجنحة السلطان ورغبة السلطان المشترك و"الجمعي" أو الجماعي في تأبيد الحال التي هو عليها. وقد يكون من شروط فك الرموز تسلل بعض التباين إلى جسم السلطان: فيوم كان ستالين "العظيم" حاكماً كان التوسل بالصحافة إلى فك الرموز مستحيلاً. ولعل من مأثور "الكرملينولوجيا" استشراف أحد أصحابها سقوط خروتشوف، أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي إلى 1964، في ضوء إخبار الصحافة السوفياتية عن أزمة الصواريخ بكوبا، في خريف 1962. لكن "الكرملين" المشرقي ارتفع بالمرموز، أي بنفسه، إلى مرتبة من التعقيد أعلى. فهو يشبِّه التباين على الناس، عامداً، حيث لا تباين ولا شقوق. وهذا "الإعلام" هو "التضليل". وهو قرينة على قوة بلغت أوجها. فهل شارفت إنهيارها، على نحو ما خلفت الجهرية "الشفافية" الغورباتشوفية "التضليل"؟ * كاتب لبناني