تمتلك الثقافات الكبرى في العالم عادة أساطيرها الخاصة بها، كجزء من آلية عملها الداخلية، ولكن أيضاً كانعكاس متجل إبداعياً لمنظومة القيم التي تشكل هوية أمة ما من الأمم في فترة تاريخية معينة قد تمتد طويلاً. فالمتنبي بهذا المعنى هو المقابل العربي لشكسبير الانكليزي ودانتي الإيطالي وغوته الألماني وسرفانتس الإسباني وبوشكين الروسي. ولكن الفارق يظل كبيراً. فالأسطورية الرمزية التي يمتلكها المتنبي تظل خاصة بالعرب وحدهم، في حين تشع الأسطورية الرمزية لشكسبير وغوته ودانتي وسرفانتس داخل الثقافة الانسانية كلها. إن ما يعادل هؤلاء في نظر العالم ليس المتنبي وإنما كتاب"ألف ليلة وليلة"الذي يشكل هدية العرب الى العالم. ولهذا الأمر اشكاليته التي تدفعنا الى تأمل الظاهرة: لماذا يكون المتنبي أسطورة عند العرب في حين أنه يكاد يكون مجهولاً عند الآخرين؟ لماذا يعتبر العرب المتنبي القمة التي ما بعدها قمة في حين لا يجد العالم في شعره ما يمكن أن يثير اهتمامه؟ لقد تعرض المتنبي كثيراً للنقد، غالباً من جانب حساده، وهو نقد تقليدي شكلاني تركز دائماً تقريباً على أخطائه اللغوية أو سرقاته الشعرية، ولكن ما من أحد تعرض لمفاهيمه الفكرية أو الأخلاقية بالنقد، لأنها كانت مفاهيم سائدة لا يكاد يفكر أحد في احتمال ضلالها. فالمتنبي لا يدعو الى العبودية فحسب وإنما أيضاً الى ضرب العبيد بالعصي، ولم يكن بالتأكيد من دعاة السلام، فالسيف يشكل في نظره قيمة عالية جداً والحرب تملأ نفسه بالهوى، وهو يرتزق بشعره من دون خجل، شاتماً من كان قد امتدحه قبل ذلك... الخ. وهنا ينبغي القول إن هذه القيم التقليدية ظلت قائمة حتى الآن، ولو جزئياً داخل الثقافة العربية. فقد اعتبره بعض القومانيين العرب الممثل الأفضل للروح العربية. كما لا يزال ثمة حتى اليوم شعراء يعتاشون على امتداح كبار القوم، بطريقة أسوأ مما فعلها المتنبي نفسه. ومع ذلك فإن المتنبي يملك ما لا يملكه الشعراء الآخرون من صنفه: قدرة مدهشة على استخدام اللغة وكشف لتفاصيل تتفجر شعراً ومعرفة عميقة بالإنسان ونقبل كل شيء بنفسه. فهو ينقل لنا دائماً الشعور بأنه يتحدث عن نفسه حتى عندما يتعلق الأمر بالآخر. ومديحه في واقع الحال لسيف الدولة أو لغيره هو مديح موارب لنفسه. وما يمكن أن نعتبره اليوم تضخماً مرضياً للذات هو بالذات ما يشكل جوهر أسطورته. فقد مثل المتنبي نموذجاً للشاعر الذي يدرك فرادته، ولكنه يعاني في الوقت ذاته من الموقع الذي وجد نفسه فيه، وهو نموذج لا يزال قادراً على إثارة المخيلة العربية. * شاعر عراقي