بينما كان الكاتب السوري المعارض ميشال كيلو يتلقى من وراء القضبان الحكم الصادر بحقه والقاضي بسجنه ثلاث سنوات، كان الفنان دريد لحّام يتلقى وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة مباشرة من الرئيس بشار الأسد. تهمة الأول بحسب الحكم"إضعاف الشعور القومي"وتقدير الثاني إغناء الفن في سورية والعالم العربي. طبعاً يستحق دريد لحّام مثل هذا الوسام الذي كان ينتظره منذ سنوات، فهو من الممثلين الكبار في سورية والعالم العربي، وصاحب مدرسة في الفن الكوميدي الهادف، وتستحق مسيرته أن تتوج رسمياً ووطنياً. أما ميشال كيلو ورفاقه المعارضون فلا يستحقون دخول السجن، فهم ليسوا بإرهابيين ولم يرتكبوا أي فعل اجرامي أو جنائي ومعارضتهم سلمية وفي العلن. وكم كان الرئيس اللبناني السابق سليم الحص مفاجئاً في رسالته الشفوية الى الرئيس السوري وقد أهاب به فيها أن يمنح ميشال كيلو ورفاقه"عفوه الخاص". لم يرتفع صوت رسمي حتى الآن مثل هذا الصوت الحقيقي والصادق والجريء. تُرى هل فكّر دريد لحّام حين كان يتسلم الوسام بالكاتب الذي حكم للحين بالسجن ثلاث سنوات؟ هل تذكّر السجن الذي سيق اليه في مسلسل"صح النوم"الذي كان يؤدي فيه شخصية المواطن الطريف"غوار الطوشي"؟ لا أدري لماذا تذكّرت"السجن"التلفزيوني الذي دخله"غوار"في نهاية ذلك المسلسل البديع، عندما شاهدت صورة دريد لحّام يتسلم الوسام وقرأت في الصحيفة نفسها الحكم الصادر بحقّ ميشال كيلو. الخبران وردا تقريباً في وقت واحد، أو بين ليلة وضحاها، كما يقال. ولئن كان سجن"غوار"سجناً خيالياً وتلفزيونياً فهو أثار فيّ حينذاك على ما أذكر، قدْراً من الحزن الذي يعرفه الفتيان في مثل هذه المواقف. كان"غوار"شاباً رائعاً ولم تكن مقالبه ناجمة عن عقل شرّير بل كان الحب الرومنطيقي الفاشل حافزها. كم كان دريد لحّام صادقاً في تلك المرحلة وبريئاً، وقد نجح تماماً في تجسيد شخصية المواطن البسيط والفقير والعاجز عن تحقيق ولو حلم واحد من أحلامه. وكانت علاقته بالسلطة المجسدة بشخصية"أبو كلبشة"رئيس المخفر علاقة طريفة وكوميدية. السجين ميشال كيلو لا يشبه حتماً السجين"غوار". هنا السجن خالٍ من أي رومنطيقية والسجان لا يشبه"أبو كلبشة". حتى الحزن الذي عبّر عنه غوار في السجن لا محلّ له في سجن ميشال كيلو. الحزن هنا في السجن الحقيقي هو أكثر من حزن، حزن مشوب بالألم وربما باليأس. طبعاً لا يحق لغير السجين أن يعبّر عن الحال التي يعيشها وراء القضبان. لا أحد يستطيع أن يحلّ محله. لكنه شعور مفترض، شعور يمكن تخيّله وعيشه ولو من بعيد. كيف يقضي الكاتب والمثقف ميشال كيلو الأيام بل الساعات وربما الدقائق في السجن معزولاً عن العالم وعن الحياة وعن الكتب والصحف والأوراق؟ كيف يسهر في الليل؟ هل ينام؟ هل من نافذة في زنزانته كي يحدّق في القمر؟ هل لديه قلم ليكتب ما يخطر في باله ويدوّن يومياته؟ النهار طويل هناك وراء القضبان، والليل طويل والعزلة طويلة والصمت... ما من سجين يستطيع أن يتحدث عن شيء جميل في الزنزانة. الحياة ذليلة هنا إن كان يمكن أن تسمى حياة. يكفي أن نتذكر ما كتبه الشاعر السوري فرج بيرقدار عن السجن الذي أمضى فيه ربيع عمره. لا أدري لماذا تذكرت سجن"غوار الطوشي"عندما قرأت الخبرين: خبر ميشال كيلو وخبر دريد لحّام. وتذكرت أيضاً كيف كنت، مثلي مثل بعض الأصدقاء، أخاف على دريد لحّام عندما كان ينتقد بشدّة الفساد في الادارات الرسمية السورية، في مسرحياته وأفلامه. لكنه كان يمضي في هذا النقد من دون تردد أو خوف. وكان الجمهور يصفّق له بحماسة وكأنه كان يتنفس عبر مواقف دريد لحّام وينفّس عن غضبه ويأسه. ولكن لم يُمنع أي فيلم أو مسلسل أو عرض مسرحي لدريد لحّام طوال الثمانينات والتسعينات... ولم يتوان بعض النقاد عن وصف أعمال لحّام في تلك الحقبة بالأعمال التنفيسية. وقيل إن صاحب"كاسك يا وطن"عمل فترة في جهاز الرقابة. كنت حتماً مخطئاً في خوفي أنا وأصدقائي على دريد لحّام. يستحق دريد لحّام الفنان الكبير وسام الاستحقاق السوري، هو الذي سمّي"فنان الشعب". لكنّ ميشال كيلو المتهم ب"إضعاف الشعور القومي"لا يستحق السجن. هل يمكننا أن ننسى كم سخر دريد لحّام من هذا"الشعور"في فيلم"الحدود"مثلاً؟ تُرى هل في إمكان مثقف نخبوي مثل ميشال كيلو أن يهدد هذا"الشعور"؟ ثم هل بقي من شعور قومي في العالم العربي، بعد الهزائم التي حلّت بنا، كي يكون هذا الشعور عرضة للتهديد أو الإضعاف؟