كان على دريد لحام أن ينتظر بصبر شديد، لحظة الانتهاء من تصوير الدراما السورية الجديدة «سنعود بعد قليل» في إحدى بلدات الشمال اللبناني، ليتوارى عن الأنظار، بعدما تظاهر ضده في موقع التصوير، جمْعٌ من الشبان اللبنانيين المتحمسين للثورة السورية، منددين بموقفه المؤيد للنظام السوري. تظاهر الشبان ضده مرتين، وفي كلتيهما لم يتعرضوا له شخصياً، بل اكتفوا بالاحتجاج على مديحه السافر للنظام ورئيسه وآلته العسكرية القاتلة. وهم شعروا بخيبة عظيمة إزاءه، هو الفنان الذي طالما تابعوا أعماله وأحبوه وظنوه مناصراً للإنسان الضحية وللفقراء والمقهورين والمظلومين... كانت الأجهزة الأمنية اللبنانية تسهر على دريد لحام والفريق الفني، وعلى رأسه المخرج المعروف الليث حجو، وجعلت من موقع التصوير مكاناً آمناً وبعيداً من أي «خطر» داهم. وعندما انتهت التظاهرة الأولى، زار الفنان أحد المراجع الأمنية شاكراً له اهتمامه. قد لا تستحق هاتان الحادثتان الضجة التي واكبتهما في الصحافة والفضائيات والإنترنت، لا سيما في ظل المأساة الكبيرة التي يعانيها الشعب السوري، في الداخل والخارج. إنهما حادثتان متوقعتان وعفويتان، وكان دريد لحام سيتعرض لما يماثلهما لو هو ظهر علانية في شارع أو ساحة أو مقهى في المناطق المنحازة للثورة السورية، أو في الأوساط التي تناصب النظام السوري العداء. ومثل هذه الحملات تدل على عمق الأثر الذي تركه هذا الممثل الرائد في وجدان هؤلاء المحتجين، وكذلك على إعجابهم الكبير به ومحبتهم المجانية له. لقد خيّبهم هذا النجم، فاجأهم بميله إلى الجزار بعدما وجدوا فيه طويلاً صورة للضحية التي تقاوم القتلة والفاسدين والظالمين المتمثلين في رمز السلطة الغاشمة. هذا الشعور راودني أيضاً وراود الكثيرين من المثقفين الذين أحبوا «غوار الطوشي» وتابعوه طوال فترة من مراهقتهم وأنِسوا إلى مقالبه وألاعيبه ونكاته، مثلما أحبوا أيضاً أبو عنتر وياسينو وفطوم وحسني البورازان وجو فندق «صح النوم»... كان «غوار الطوشي» شخصاً غاية في الطرافة والظُّرف والدهاء، سليل البيئة الشعبية والفقيرة، ورمز المواطن الضعيف الذي لا حيلة له إلا في التحايل على السلطة والمجتمع والأفراد، ولكن ببراءة لا تخلو من الشر. كان من السهل على غوار وجماعته أن يحتلوا قلوب الجمهور العربي الكبير وأن يدخلوا المنازل منذ الشاشة البيضاء - السوداء، ولعل دريد لحام نفسه لم يعلم قيمة هذه «الأمانة» التي تُدعى غوار و «صح النوم»، والتي أودعها ذاكرة جمهوره، على رغم بساطة المسلسل التاريخي وعفوية الأداء والإخراج وعدم الاحترافية التقنية، فهو لم يلبث لاحقاً أن خان غوار، قرينه، وراح يقترب من السلطة، التي عرفت كيف تدجن كثرةً من الفنانين والكتّاب والمثقفين، داعية -أو مغرية- إياهم للانضمام إلى حظيرتها، قسراً وطوعاً. ولم يكن من المستهجن أن يعمل في جهاز الرقابة البعثية فترة، وأن يشرع في توظيف فنه لمصلحة النظام، جاعلاً من أعماله المسرحية والتلفزيونية والسينمائية «أداة» للتنفيس الشعبي، حاملاً المشاهدين على نسيان مظالم النظام وفساده، بل هو لم ينثنِ عن إلقاء تبعة الفساد على «المواطن» خدمة للنظام. وعملاً تلو عمل، راح الفنان يفقد صدقيته و «شرعيته» الشعبية، وزاد من فضيحته الخلاف الذي وقع بينه وبين الشاعر الكبير محمد الماغوط، الذي كان براءً من كل أحابيل دريد لحام. قد لا تستحق الحادثتان اللتان تعرض لهما دريد لحام الضوضاء التي حصلت حولهما، لكنّ دريد لحام يستحق شخصياً مثل هذا الموقف الاحتجاجي والنقدي والفضائحي بعدما بالغ في مديح النظام الدموي. والعيب أن يقصد هذا الفنان لبنان ليصوّر حلقات مسلسله الجديد، فلا يخطر في باله أن يزور مخيمات السوريين النازحين والمهجرين، ولو متخفياً أو متقنعاً إن كان يخشى ردّ فعلهم تجاهه. أما العيب الكبير الآخر، فهو أن يسقط زميله ورفيق دربه ياسين بقوش شهيداً، فلا نسمع منه كلمة استنكار أو إدانة أو رثاء. رحم الله ياسين بقوش، ورحم أيضاً غوار الطوشي، الذي أطلق قرينه دريد لحام رصاصته الأخيرة على رأسه.