الجريمة التي حدثت في إسرائيل ضد مواطن عربي الأسبوع الماضي، كان يجب ألا تمر بهدوء، إذ هي جريمة مثيرة بكل المعايير، ليس لكونها جريمة قتل عنصرية فحسب، ولكن لأنها شملت استهتاراً معلناً وتبجحاً سافراً بالدم العربي. فقد جاءت هذه الجريمة النكراء بطريقة ما يعرف في القانون الجنائي ب"سبق الإصرار والترصد"، حين اعترف الجاني اليهودي - وهو مهاجر فرنسي- أنه ذهب مع أخيه إلى القدس ليبحث عن سائق تاكسي عربي لقتله. فلما وجده وأوصله السائق إلى شقته طلب المهاجر اليهودي منه حمل متاعه إلى داخل الشقة، حتى إذا تمكن منه ضربه بمساعدة أخيه بطعنات عدة أجهزت عليه. وعلى رغم أن الإرهابي اليهودي ذكر في اعترافاته اثناء التحقيق، أنه إنما أراد قتل عربي، حيث"الاعتراف سيد الأدلة"كما يقال في القانون الجنائي، إلا أن الشرطة الإسرائيلية لم تقبل روايته، وقررت إحالته لطبيب نفسي. وحيث أن القاتل يهودي والمقتول عربي، فقد وجهت إلى القاتل تهمة"ارتكاب أعمال عنف"ضد الجاني. وأما الأخ المشارك فلم تزد المحكمة عن أن وجهت إليه تهمة الإعانة على ارتكاب جريمة عنف، وليس تهمة المشاركة فيها. أما القاضي الذي نظر في القضية، فقد وافق على طلب محامي المتهم على أن"مواد التحقيق تتضمن مؤشرات على مشكلات نفسية لدى المتهم". وأنه والحال كذلك، فقد تمت إحالة المتهم إلى مصحة نفسية لتتم لاحقاً تبرئته قضائياً. وقد بلغ الاستهتار الإسرائيلي، أن الجاني كان يتبادل الابتسامات مع رجال الشرطة في المحكمة ويصفق، كما كان يمد لسانه أمام المصورين، من دون أي اعتراض من القاضي. ولعله يبدو واضحاً تواطؤ المجتمع الإسرائيلي من حكومة ومحكمة وشرطة ومجتمع مدني، في ظاهرة"العنف"الذي تتحمل الحكومة الإسرائيلية مسؤوليته. إذ أن هذه القضية - التي تؤكد من جديد انتشار ظاهرة الفاشية اليهودية في المجتمع الإسرائيلي- تأتي نتيجة التحريض الحكومي المستمر ضد ما يسمى بعرب 48، الذين يعانون من هضم حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت مثل هذه القضية ليست بدعة في التاريخ الإسرائيلي المليء بالوحشية الهمجية البربرية، إلا أنه بات ملاحظاً مستوى الوقاحة والجرأة التي وصلت إليها الوحشية اليهودية الرسمية، ومنها وحشية الحكومة الإسرائيلية ذاتها، التي تبجحت قبل أسابيع عبر فيلم وثائقي بثته القناة الإسرائيلية الأولى، وتضمن اعترافات مسؤولين إسرائيليين بقتل مئات الأسرى من العرب إبان حرب 1967. إذ يبدو أن النمط الجديد للصهاينة اليوم، هو التبجح بجرائمهم نهاراً جهاراً بكل تحد للعالم كله، واثقين من غياب أي مساءلة دولية أو عربية، رسمية أو غير رسمية، بما في ذلك الدول العربية التي تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل، والتي تعين بسلبيتها وجمودها الحكومة الإسرائيلية على الاستمرار في طريقها الإرهابي الرسمي. فقبل بضع سنوات، قام جندي إسرائيلي بقتل سبعة فلسطينيين بدم بادر، وقد أحيل المجرم إلى مصحة نفسية قررت أن الرجل يعاني من"أزمات نفسية تجعله لا يملك تصرفاته"، وعلى هذا الأساس رأت"العدالة الإسرائيلية"تبرئته من جريمته النكراء. ولعله ليس ببعيد عن الذاكرة العربية تبرئة الشخص الذي قام بإشعال النار في المسجد الأقصى المبارك عام 1969، بعد أن اعتُبر في نظر المحكمة"مجنوناً". ومثل ذلك وصم الطبيب الذي قتل أربعين مصلياً في الحرم الإبراهيمي عام 1994، ب"الجنون"، لكي لا يدان، على رغم أنه كان قد دخل برشاشه بين يدي الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يمازحونه ويضحكون معه. وقبل أكثر من عامين، أطلقت دبابة إسرائيلية نيرانها على ثلاثة من عناصر الشرطة المصرية في سيناء بزعم الظن أنهم كانوا"ناشطين فلسطينيين"، وتمت تبرئتهم ولم توجه لهم أي تهمة، واكتفت الحكومة الإسرائيلية ب"توبيخهم"، كونهم"أساؤوا التقدير". المثير للسخرية، هو أن كثيراً من الحكومات العربية التي أقامت علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، كانت تزعم في بداية أمرها، أن"السلام"الذي تقيمه مع الدولة العبرية سيجني ثمرته فلسطينيو الداخل، لأن هذا السلام بزعمهم يمكنهم من الدفاع عن المواطنين العرب المقيمين داخل الأراضي الفلسطينية وعن القضية الفلسطينية عموماً! ويبدو أن الدم العربي أصبح رخيصاً حتى في نظر الإعلام العربي ذاته. وقد بدا لافتاً في هذه القضية المؤلمة، غياب الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي، الذي يخصص الساعات الطويلة للمواضيع التافهة في كثير من الأحيان. ولعله فات أرباب الإعلام العربي أنه ربما كان في اهتمامهم بهذه المأساة، بعض العزاء لأرملة القتيل الفلسطيني وأيتامه من ابن وأربع بنات، الذين لم يجدوا العزاء في مواقف حكوماتهم العربية، والفلسطينية منها خصوصاً. إلا ان هذا الخبر - على رغم قساوته - لم يثر كوامن الفضول عند الإعلام العربي المقروء أو المرئي أو المسموع. فلم يتصدر هذا الخبر الصفحات الأولى في الجرائد والمجلات، ولم تحفل به الفضائيات العربية، أو توفر له اللقاءات الخاصة لدرس"ظاهرة الإرهاب اليهودي"ولو كان الحدث قد صدر من مسلم ضد غربي، لكانت الحال غير الحال. ولعله من المناسب مقارنة هذه الحادثة التي تنم عن العقلية اليهودية في عدم قبول مساواة يهودي بغير يهودي، بمعاقبة المواطن العربي حين يقتل شخصاً غير مواطن في العالم العربي. فقبل أقل من شهرين، أُعدم في السعودية جنديان سعوديان لإقدامهما على قتل مواطن من بنغلاديش، ولم يشفع لهما كونهما سعوديين أو من رجال الأمن في الحصول على نظرة حانية من الحكومة التي أرادت أن توجه رسالة واضحة مفادها أن معنى العدالة الإنسانية يجب ألا يكون مقصوراً على مواطني الدولة. ولعل في هذا المثال القريب ما يغني عن كثير الكلام في الفرق بين العدالة الإسرائيلية المبنية على أسس الديموقراطية المزعومة، والعدالة الإسلامية الفطرية التي مازالت قائمة بحمد الله. * حقوقي دولي