يبدو أن الاستهتار الأخير الذي تبجحت به إسرائيل عبر الفيلم الوثائقي الذي بثته القناة الإسرائيلية الأولى قبل أسبوعين، والمتضمن اعترافات لمسؤولين إسرائيليين بقتل مئات الأسرى من العرب إبان حرب 1967، لم يحرك ساكناً عند أي من الحكومات العربية. وعلى رغم أن الاعترافات الرسمية التي احتواها الفيلم الوثائقي لمسؤولين في الجيش الإسرائيلي، تبعها تأكيد من الوزير الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر، الذي أقر بأن وحدته المسماة "شكيد" قتلت بالفعل 250 أسيراً في حرب الأيام الستة عام 1967، إلا أن رد الفعل العربي الرسمي لم يبلغ حتى درجة الشجب والاستنكار بعد! وسواء أكان الأسرى المقتولون من المصريين كما جاء في الفيلم، أم كانوا من الفلسطينيين كما زعم الوزير الإسرائيلي ووافقه مخرج الفيلم لاحقاً، فإن المسألة أكبر من أن تترك وتنسى. فحماية الأسرى مسؤولية قانونية دولية التزمت بها إسرائيل بموجب المعاهدات الدولية، ويعد قتل الأسرى اليوم جريمة قانونية دولية إنسانية كبرى، إذ نصت المادة 130 من اتفاقية جنيف الثالثة سنة 1949 على أن جريمة القتل العمد لأسرى الحرب تدخل تحت"المخالفات الجسيمة"لتلك الاتفاقية. كما بينت المادة 129 من الاتفاقية نفسها التزام الدول المتعاقدة ب"ملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة"وملاحقة كل من أمر باقترافها، وبتقديمهم إلى المحاكمة. وما دام القانون الدولي يجرم قتل الأسرى ويعاقب على ذلك، فمن الطبيعي أن يتساءل أقارب الأسرى الذين انتهكت حرماتهم القانونية، عن سبب تقاعس حكوماتهم في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين! إذ إنه من غير المفهوم أن تتردد بعض الحكومات العربية في المطالبة بحقوق مواطنيها التي منحها لهم القانون الدولي لتتجاهلها هي! من أجل ذلك، فإن أقارب من لقوا حتفهم على أيدي القوات الإسرائيلية بعد أسرهم، والذين تشير بعض الإحصاءات إلى إن أعدادهم بالآلاف، لا يكادون يفقهون حكمة صمت حكوماتهم على ما لا خلاف حول كونه عملاً وحشياً همجياً بربرياً بكل المقاييس! وإذا كان"الاعتراف سيد الأدلة"كما يقال في القانون الجنائي، فإن هذا الفيلم الوثائقي بما احتواه من اعترافات لقادة في الجيش الإسرائيلي وما تبعه من شهادة لمسؤول الفرقة التي قامت بإعدام الجنود العرب، سواء أكانوا مصريين أم فلسطينيين، يعد وثيقة قانونية مهمة يمكن بناء قضية قانونية دولية جنائية عليها. فلماذا إذاً، لا تطالب الدول العربية مجتمعة أو متفرقة أو عن طريق منظمتها الأم، بمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين محاكمة جنائية دولية؟ ولعله من المفيد أيضاً رفع الأمر إلى مجلس الأمن - وإن كان قد فقد كثيراً من شرعيته في الآونة الأخيرة - لمجرد تسجيل هذه الحادثة في التاريخ القانوني الدولي وإلقاء اللوم على الدول التي سوف تعترض على شجب الوحشية الإسرائيلية المعلنة. كما أنه من مسؤولية الدول العربية عرض هذه السابقة الخطيرة على الجمعية العامة للأمم المتحدة في لقاء استثنائي لشجبها دولياً. ثم إنه من المطلوب حالاً من الدول المعنية، أن تشرع في رفع دعوى قضائية أخرى ضد إسرائيل - بسبب خرقها معاهدةً دولية - أمام محكمة العدل الدولية، وطلب تعويضات مادية لذوي الأسرى، وإن كانت محكمة العدل الدولية هي الأخرى قد فقدت كثيراً من صدقيتها أيضاً بعد حكمها الأخير المتعلق بتبرئة صربيا من تهمة جرائم إبادة جماعية ضد مسلمي البوسنة والهرسك. فالمطلوب من الحكومات العربية إذاً، هو تحرك سياسي وديبلوماسي وقانوني دولي في كل الاتجاهات، لئلا تفوت الفرصة المناسبة لفضح ومحاسبة الدولة العبرية المعتدية، كما فرطت الحكومات العربية من قبل في انتهاز الفرص السابقة التي انتهكت فيها إسرائيل القوانين الدولية وارتكبت فيها المجازر الوحشية والتي شملت على سبيل المثال لا الحصر: مجزرة دير ياسين، ومجزرة خان يونس، ومجزرتي قانا الأولى والثانية ومجازر صبرا وشاتيلا، ومجزرة بيت حانون، ومجزرة شاطئ غزة، وغير ذلك من المجازر الإسرائيلية التي يصعب حصرها. كما أن هذه السابقة القانونية الخطيرة تسمح بإثارة أسئلة جادة حول صدقية التزام إسرائيل بالقوانين والأعراف الدولية أمام المجتمع الدولي، والغربي منه خصوصاً، ليطرح السؤال بقوة: مَنْ الأولى أن يُطلب منه إصدار بيان ب"نبذ الإرهاب"، قبل الاعتراف بشخصيته وحقوقه، حركة"حماس"؟ أم إسرائيل التي تبجحت في أفلامها الوثائقية بمخالفة القوانين والأعراف الدولية حين اعترفت بقتل أسرى الحرب؟ وبمناسبة الحديث عن"حماس"، فهل من الملائم أن تتحرك حكومات عربية وتستخدم كل نفوذها السياسي والديبلوماسي والقانوني لإنقاذ أسير إسرائيلي، قبل أن تقايض به السجناء الفلسطينيين والعرب الذين يفوق عددهم عشرة آلاف يقبعون في سجون الاحتلال، في حين تصمت هذه الحكومات عن الانتهاكات الإسرائيلية المتوحشة المعترف بها؟ وإنه لأمر معيب، أن تقف الدول العربية - والمعنية منها بالذات - مكتوفة الأيدي أمام هذه الاعترافات الإسرائيلية السمجة بجرائمها النكراء، ولا تكترث بدماء المئات إن لم يكن الآلاف من أبنائها الذين حملوا أرواحهم فوق أكفهم دفاعاً عن بلدانهم، في حين تتحمس كثير من الدول العربية للترحيب بمحكمة جنائية دولية لمحاكمة"مجرمي الحرب"في دارفور، أو محكمة دولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. المثير في هذه القضية هو أن القضاء المصري الذي أمر بحفظ قضية قانونية مرفوعة أمامه قبل ستة أعوام، ضد رئيس وزراء إسرائيل السابق شارون، بسبب"عدم توافر الأدلة"ضده، ما زال يمتنع عن قبول النظر في قضايا ضد المسؤولين الإسرائيليين الذين افتخروا بارتكاب هذه الجرائم من أمثال قائد الكتيبة 890 مظلات آرييه بيرو، وميخائيل بارز، وهو عضو في الكنيست، ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق وزير البنية التحية حالياً بنيامين بن اليعازر، وقد شهد على هذه الجرائم الأستاذ في جامعة بار إيلان المؤرخ الإسرائيلي آرييه إسحاقي، الذي قام بإجراء بحث علمي توصل فيه إلى أن الجنود الإسرائيليين قاموا بالإجهاز على قرابة 900 أسير مصري بعد استسلامهم في حرب عام 1967. ولكن إذا كانت الحكومات العربية قد قصرت في واجباتها حيال هذه المأساة الإنسانية، فإن ذلك لا يعفي شعوبها عموماً ووسائل إعلامها وغير الرسمية منها بالذات، من تجاهل هذا الخبر المفزع، إلا أنه قد يشفع لبعض الإعلاميين العرب تجاهلهم هذا الحدث الخطير، أنهم قد أصيبوا بنوع من التبلّد الحسي بسبب كثرة الانتهاكات الأميركية والإسرائيلية للقوانين الدولية، التي جعلتهم يشعرون بأن الحديث عنها أصبح مجرد"ترف إعلامي"! * حقوقي دولي