يترك توني بلير منصب رئاسة حكومة بلاده وزعامة حزبه وسط مفارقة لافتة للنظر. فالاستقالة هي عادة ابنة اخفاق كبير يلم بمسيرة الحكام بحيث يضطرون من بعده الى الانسحاب من مسرح الحكم. المفارقة هنا هي ان استقالة بلير تمت في وقت تمر فيه بريطانيا، كما يعتقد الكثيرون وخاصة من المتعاطفين مع توني بلير، بمرحلة استقرار سياسي وازدهار اقتصادي. اذا كان هذا حال بلير وبريطانيا في عهده، فلماذا قرر اذن التخلي عن الحكم؟ يجيب اكثر المعلقين على هذا السؤال بقولهم ان السبب الاول وربما الاخير لقراره كان الفشل الذي تحمل مسؤوليته في العراق. هذا الفشل لم يكن يسمح لتوني بلير ان يخاطب الشعب البريطاني كما خاطب ادموند بيرك، رمز البرلمانية، البريطاني التاريخي ناخبيه في خطبة بريستول الشهيرة عندما قال لهم:"انتخبتموني لانكم تثقون بي. وما دمتم قد مارستم هذا الخيار، فان من حقي ان اتصرف وفق قناعاتي، وليس لكم ان تحاسبوني الا عندما يأتي وقت الحساب اي يوم الانتخابات المقبلة". الحقيقة ان بلير حاول ان يخاطب البريطانيين بالمنطق نفسه عندما طالبهم بأن يضعوا ثقتهم فيه، وان يتركوا له حرية التصرف في الشأن العراقي. فعل بلير ذلك وكأنه يقول للبريطانيين انه يعلم ما يعلمون، وانه ليس له ان يطلعهم على ما يعرفه لأن متطلبات الحكم وضرورات العلاقات الدولية تقضي بالتستر على حوافز سياسته واهدافها. بل ان بلير ظل الى اليوم الذي اعلن فيه قراره بالاستقالة مصراً على هذا النهج في هندسة سياسته الخارجية، معتبرا ان اهداف سياسته هي"من اسرار الدولة"يتحدث عنها تلميحا لا تصريحا. لهذا طالب الناخبين مجددا ان يقتنعوا بسياسته حتى ولو غابت عنهم خفاياها عندما اقسم على انه فعل ما اعتقد"انه صواب بالنسبة الى بلادنا". احتاج بلير الى ان يقسم على انه يقول الصدق لان الكثيرين من البريطانيين يعتقدون انه كذب عليهم خلال مراحل تحضير حرب العراق. كثيرون منهم، حتى من مؤيدي الحرب، توصلوا الى ان بلير كذب عندما اخفى عنهم ان القرار بشن الحرب اتخذ خلال النصف الاول من عام 2002 وانه ابلغ الرئيس الاميركي بتأييده للحرب. والكثيرون ايقنوا انه كذب عليهم عندما قال ان العراق كان يهدد بريطانيا في حين ان الاستخبارات البريطانية اكدت له ان هذا الامر غير صحيح. واستتنج الكثيرون انه، استنادا الى سلوك بلير هذا، فان الزعيم البريطاني اندفع على هذا الطريق، ارضاء لجورج بوش، وانه بذلك اخرج بلاده عن التزامها بالقوانين الدولية، وعرضها للأخطار والتهديدات. ورغم ان مجلس العموم لم يعارض بلير الا ان الاستفتاءات دلت على ان اكثرية الرأي العام لم تعد تصدقه. وانحدرت الثقة بالزعيم البريطاني المستقيل الى ادنى مستوياتها عندما وصلت الى حوالي 23 بالمئة خلال الحرب وخلال الاشهر الفائتة بعد ان كانت قد وصلت في منتصف التسعينات الى ما يفوق الخمسين بالمئة. لقد اخطأ بلير خطأ كبيراً عندما اخفى الحقائق عن شعبه، وعندما ساهم مع ادارة بوش في تزوير قسم منها بقصد اقناع العالم بأن العراق في العهد السابق كان يمثل خطرا حقيقياً على الغرب والعالم. ولكن هل كان بلير مخطئاً عندما قال انه كان يدافع عن مصالح بلاده؟ كلا. الحقيقة انه كان يدافع عن مصالح بلاده ولكن كما كان هو يراها وكما اعتاد ان يراها فريق من الساسة البريطانيين من الذين نشأوا وترعرعوا في كنف الامبراطورية البريطانية، وتكونت نظرتهم الى العالم في ظلها. ولقد زالت تلك الامبراطورية، الا ان تلك المدرسة استمرت على يد عدد من قادة بريطانيا البارزين مثل ونستون تشرشل وانتوني ايدن ومارغريت ثاتشر واخيرا لا آخراً توني بلير. ومن التعاليم التي تناقلتها وتوارثتها الاجيال المتتالية من زعماء هذه المدرسة هي تلك السياسة السلبية الصارمة تجاه مشاريع التكتل الاقليمي سواء في اوروبا أم المنطقة العربية. تأسس على تلك السياسة عمل بكل الوسائل، بما في ذلك شن الحروب بغرض منع قيام قوة قارية او عربية اقليمية تستطيع القيام بدور قاطرة اي من هذين المشروعين. في هذا السياق يفهم محللو السياسة الخارجية البريطانية موقف ثاتشر وبلير تجاه الاتحاد الاوروبي. ولقد بلغ عداء اقطاب هذه المدرسة لقيام مثل هذه القوة الى حد ان مارغريت ثاتشر لم تكتم تفضيلها لاستمرار حلف وارسو الشيوعي اذا شكل هذا الاستمرار ضمانة لمنع تحقيق الوحدة الالمانية ومن بعدها الاتحاد الاوروبي بزعامة المانيا الموحدة! وتحقيقا للغاية نفسها كان بلير من اشد المتحمسين لانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي أملاً في ان يؤدي ذلك الى اضعاف تماسكه. في هذا السياق ايضا يفهم العديد من دارسي العلاقات العربية - البريطانية، مثل ايان لوستيك، استاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، موقف انتوني ايدن من مصر الناصرية ومن حرب السويس، وموقف بلير من الحرب على العراق. فمصر والعراق تناوبتا دور القاطرة هذه خلال القرن العشرين. واذا كان العراقيون قد اظهروا حماسة اكبر للاضطلاع بهذا الدور خلال المرحلة الاخيرة، ففد بات من المناسب في نظر بلير، توجيه ضربة قاصمة الى العراق تحرمه، ربما الى الابد، من التطلع الى الزعامة الاقليمية. اقترنت مواقف اولئك الزعماء البريطانيين الى مشاريع التكتل الاقليمي في اوروبا والمنطقة العربية بنظرات سلبية تجاه الاوروبيين والعرب معا. وفيما اتسمت نظرتهم الى الاوروبيين بمزيج من التخوف والعداء فانه من الصعب القول بانهم كانوا من كارهي العرب، كما يعتقد البعض عندنا. الاصح هو ان نظرتهم تجاه العرب كانت تتسم بالازدراء، وانهم بمن فيهم توني بلير، لم يقيموا للعرب وزناً. ولعل اقرب معبّر عن هذه النظرة هو ما قاله لورد بلفور فقد اعلن صاحب الوعد الشهير حول الوطن القومي اليهودي في فلسطين، أن بلاده اذ قدمت وعدها هذا الى الصهيونية فانما فعلت ذلك اعترافا منها"بالمبادئ السامية والعريقة التي قامت عليها الصهيونية، اما السبعمئة الف فلاح فلسطيني فإنها لا يهمها امرهم". سوف يذكر التاريخ ان السياسة العربية التي انتهجها توني بلير واقتفى فيها آثار بالمرستون وتشرشل وايدن وثاتشر، الحقت بالعرب اضرارا كبرى. ولكن سوف يذكر التاريخ ايضا ان السياسة التي انتهجها اولئك قد الحقت ضررا كبيرا ايضا ببريطانيا نفسها. فالسياسة التي انتهجها هؤلاء الزعماء سممت العلاقات العربية - البريطانية واثارت نقمة واسعة في المنطقة ضد بريطانيا. واذا كان الهدف من تلك السياسات حماية المصالح البريطانية في المنطقة، فانها ادت الى نتائج مناقضة لتلك الغايات اذ حولت بريطانيا من قوة دولية كبرى تقف على قدم المساواة مع الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في مؤتمر يالطا، الى قوة دولية متوسطة تعاني عزلة حتى على المستوى الاوروبي. والحقت حرب العراق التي ايدها توني بلير وسعى الى تسويقها بكل ما أوتي من مهارات كلامية وخطابية هي الاخرى اضرارا كبيرة ببريطانيا. فلقد كان من المفارقات انه في الوقت الذي ادت هذه الحرب الى تهديد وحدة العراق الترابية بانفصال الشمال، جاءت الانتخابات الاخيرة في شمال بريطانيا لمصلحة تعزيز قوة الحزب القومي الاسكتلندي الذي يطالب باستقلال شمال بريطانيا بعد ان ادت حرب العراق الى خسارة حزب العمال مركزه القوي في اسكتلندا. لعل ذهاب بلير يكون مناسبة لكي يكتشف زعماء بريطانيا الجدد ان الفوائد التي تعود عليهم اذا كان العالم العربي بخير هي اكبر بكثير مما اذا كان متخلفا وضعيفا كما هو الآن. ولعلهم يكتشفون ان العرب مهما كانوا ضعفاء ومشتتين، فانهم لن يقلعوا عن الرد على من يستخف بمصالحهم ومشاعرهم. انهم كثيرا ما يخطئون الطريق، ولكن في الحالات كافة ليس من السهل معاملتهم وكأنهم أمة يمكن الاستغناء عنها. * كاتب لبناني