كان يأتي في فترة مرضه الأخيرة، شاحباً، بطيء الخطى قابضاً على ابتسامة. فإذا جلس سأل عن أحوال الآخرين، وبحثت يده عن زجاجة ماء ترطّب فماً دائم الجفاف. وكانت ابتسامته تبعث وجهاً حجبته طبقات المرض، يعاندها صوت مبحوح، لم تفلح الابتسامة في تحريره من قيود الأسى. كان وراء سعد المريض، الذي يرى إلى داخله وخارجه، سعد آخر، يريد أن يكون ما كانه، صوتاً واضحاً يقاتل المرض. حاول الإنسان المريض: وبإرادة غير متوقعة، أن يكون صورة عن"سجين الأمل"، الذي تحدّث عنه قبل سنة من رحيله ونيّف، حيث على السجين أن يعابث عبث الوجود وأن ينتظر يوماً لا جفاف فيه، يوزّع النور على القارئ والكاتب والصوت، وعلى مسرح مزدهر واسع، لا يكون المجتمع حيّاً سليماً من دونه. ذلك"أنّ المسرح ليس تجليّاً من تجليّات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع". على رغم المرض والجفاف وعين قلقة تلاحق"زجاجة الماء"، كان المبدع الناحل مصمّماً على محاكمة زمن خائب، وعد بالفضيلة واستنهض الرذيلة، بمقدار ما كان مصمّماً على مواجهة"الخديعة الذاتية"، التي أقنعت المثقّف المسؤول بأنّ التاريخ لا يعود إلى الوراء. ولعلّ هاجس التمييز بين الخطأ والصواب، هو الذي أملى على هذا المثقف، الذي كان يستأنس بأفكار عبدالله العروي وقسطنطين زريق وفرانتز فانون وغيرهم، أن يعود إلى الماضي القريب، الذي بدا نهراً أو ما يشبه النهر، قبل أن يتحلّل ويركد ويتفسّخ، وينتهي إلى"الاستنقاع"، بلغة ونوس. وهذه الدورة، التي تلطم العقل حتّى لو كان بصيراً، جعلته في أيامه الأخيرة يحاول مسرحية، لم تنته، عن أيام أديب الشيشكلي، بعد مسرحية"الأيام المخمورة"التي تأمّلت الهوية ونسيج الإنسان الشرقي و"زمن التنوير"، الذي بدأته عقول مشرقة مخلصة، وبدّدته البلاغة الفارغة والعقول الانقلابية وحسابات السماسرة. بدا ونوس، في حقبة"مسرح التسييس"، مفعماً بيقين الأمل وبأمل له جلال الحقيقة، وانتهى، بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت بشكل خاص، إلى مرحلة منسوجة من الشك والمساءلة والقلق، باحثاً عن الصواب في زمن عربي ألقى بالصواب إلى مزبلة. يقول الحفيد في"الأيام المخمورة":"أيقنت أنّ في العائلة دملاً يتستّر عليه الجميع، وأيقنت أنّي لن أستقر في اسمي وهويتي إلاّ إذا اكتشفت الدمّل وفقأته"، ويقول أيضاً:"ألا يحتاج المرء أن يعرف أهله والناس الذين يحمل هويتهم؟". لم يعد المسرحي الكهل، الذي كان مشدوداً إلى بريشت وبيتر فايس وكاتب ياسين، مشغولاً بالثورة الاشتراكية، التي يؤسسها الحالمون ويسرقها الجبناء، ولا بالوحدة العربية، التي تزهر كلاماً وتورّث خيبة، بل أصبح مهجوساً بسؤال صغير كبير، يدور حول الاسم، والذي يشك في اسمه يشك في وجوده، وحول الهوية، التي استنقعت إلى تخوم الانحلال. كان سعد في أسئلته القلقة، وهو الذي لا يسقط النوم عليه هيّناً في الأيام السعيدة، يسأل خيبة عربية متوالدة، منذ أن أصبحت فلسطين مزاداً وسوقاً وبازاراً، كما لو كان الوباء العربي وباء لا علاج له. يقول الأراجوز في"الأيام المخمورة":"ما هي الحقيقة؟". إنّها"إبرة ضاعت في مزبلة". لم يكن سعد يهوّن من شأن الحقيقة بل كان مذعوراً، من فداحة المزبلة"، التي تردّ المثقف المسؤول مهزوماً، من دون أن يستطيع السير مع"السائرين نياماً"، أو أن يقنع عقله بالكف عن الخفقان. في منتصف سبعينات القرن الماضي، أو ما جاورها، كتب سعدالله مسرحية"الملك هو الملك"، التي هي"لعبة تشخيصية لتحليل بنية السلطة في أنظمة التنكّر والملكية"، كما قال: أظهر في مسرحيته أنّ السلطان كيان مجرّد، قوامه رموزه، فالحاكم هو الرداء الذي يلبسه مثلما أن الوزير هو رداء الوزير. فلا وجود لأشخاص وجماعات و"طبقات"، لأنّ البشر لا يصنعون السلطة، فهي التي تصنعهم وتعطيهم ميلاداً جديداً، كما لو كان في السلطات المستبد منها بالتأكيد، ما يضعها السلطات في زمن قاتم وحيد. صرّح المسرحي بتشاؤم يقارب اليأس، سبقه إليه نجيب محفوظ في"أولاد حارتنا"، التي قالت إنّ"الإنسان الطيّب"الذي يصل إلى السلطة لا يظل طيّباً بعد الوصول إليها. فالسلطة لعبة تنكرية، من ينسى أدواتها يفقدها، والسلطة تنكّر موروث، من يكشف عن وجوهها المحتجبة يسقط في الاغتراب. آمن سعد الصبي، وهو يسجل في قريته ملاحظات على دفتر بسيط، بأنّ في الواقع المعيش خللاً، وأنّ الخلل قابل للإصلاح. وما على الصبي، الذي أصبح كاتباً، إلاّ أن يشرح مواقع الخلل، ويحرّض الفقراء على هدم قصور الظلم وتشييد مملكة العدالة. كتب، وهو الذي كان يستضيء بالماضي، مسرحية موجعة"مأساة بائع الدبس الفقير"، الذي انتظر طويلاً إحسان القلوب الأخيرة، إلى أن داسته الأقدام واستحال إلى"لطخ سائل مصفرّ يبقّع الإسفلت". كان سعد، قبل زمن"الملك هو الملك"، قد وزّع هواجسه على سؤالين: سؤال"السلطة الطبقية"، التي تعيد إنتاج غنى الأغنياء وفقر الفقراء، وتعيد إنتاج المعرفة السلطوية وجهل الرعيّة. ولهذا جعل من سؤال الانتقال من"الغفلة إلى اليقظة"، وهو موضوع استقاه من بيتر فايس، مكمّلاً لذلك السؤال الأبدي، الذي يحكي عن مكر الحاكمين وسذاجة المحكومين. كيف يصبح المسرح منقذاً اجتماعياً، مخلّصاً آخر، بديلاً عن"المخلّصين المسلّحين"، الذين ينجزون لعبة التنكّر ونحر المصلحة الجماعية في آن؟ كيف تتحوّل المسرحية إلى مظاهرة، كما هجس سراً وهو يكتب"حفلة سمر من أجل حزيران"؟ مقتفياً آثار غيره من الحالمين الكبار، ذهب سعد إلى"مسرح التسييس"، الذي يواجه المتفرّج بتناقض اجتماعي غير متوقع، ويجبره على التخلّي عن الإجابات الجاهزة. أراد المسرحي، الذي حاول التنظير لمسرح إبداعي عربي، أن يقيم الفرق بين مسرحه و"مسرح سياسي"آخر يحوّل أوجاع الناس إلى"نكات"ماسخة. ولهذا رأى التسييس المسرحي في مقولات جمالية جديدة، تعيد بناء ذائقة المتفرّج الذي حوّلته التربية التقليدية إلى مستقبِل بكسر الباء سلبي، يرى ويسمع بلا مساءلة أو فضول. شاء سعد، في هذه المرحلة، أن يطبق قول بريشت عن"الكاتب الذي يصطحب معه قارئه إلى المعركة". لكنّه ما لبث أن أدرك أنّ الحديث عن"رسالة مسرحية"حديث عن مجتمع مدني يحتفي بالمسرح، وأنّ التوجّه إلى جمهور مسرحي يفترض فضاء اجتماعياً يتمتّع بحياة سياسية سليمة. فقد جاء المسرح من السياسة وظلّ مهجوساً بأسئلة سياسية. عرف سعد أنّ عليه أن يدع فكرة"المعركة"وأن يذهب إلى فضاء التأمّل الطليق. كان عليه، وهو يحاول اختبار الصواب، أن يصمت، أي أن يشك في ما كان يعتبره بداهة ولو بقدر، وأن يشك، لزوماً، في بداهات"فلسفة التقدّم"، التي تخترع، في الشروط العربية، ما شاءت من الطبقات المتوهمة، وتغدق ما شاءت من الصفات الجديدة على أنظمة لا علاقة لها بالجديد ولا بما يشبهه، خطأ، ولا بما يتقاطع معه، ولو صدفة. وبعد صمت طويل جاء ب"منمنمات تاريخية"، التي تأمّلت هندسة الخراب الذاتية، التي تجعل البلاد مهزومة قبل هزيمتها الأكيدة القادمة، إلى أن وصل إلى قفر موحش، يتنافس فيه البشر كي يذهبوا إلى الهاوية. جاء في مسرحية"ملحمة السراب":"أنّ الزرقاء قالت لو أنّكم لم تستعجلوا موتها لكان ممكناً أن تبصر في البعيد شمساً تشرق بعد انقشاع هذا الليل الطويل". أراد الكاتب - الرائي معركة غير ميؤوس منها، وأراد الواقع العربي الاحتفال بالليل الطويل، الذي يلغي معنى الشروق والغروب. تأمّل سعدالله الواقع العربي وحاور أسئلته، وتأمّل المسرح وعمل على تطويره، حتّى أصبح المسرحي العربي الأكثر تجديداً وأصالة، في النصف الثاني من القرن العشرين. عالج المسرحي الراحل صخرته الثقيلة حتى الرمق الأخير، مارس ما قال به، وطوّر قوله وظلّ مخلصاً لما آمن به وهو يسجّل، صبيّاً، ملاحظات عن المعنى والوجود وعن جمال الأحلام وخراب الروح البشرية. يقول مثل أفريقي:"حين يغيّب الموت عجوزاً تغيب معه مكتبة واسعة". خلّف ونّوس مكتبة مبدعة ورحل ولم يجاوز الخمسينات إلاّ بقليل. كان يقول في ساعات الكآبة:"إنّ باطن الأرض أرحم من وجهها". بعد عشر سنوات على رحيله لم تغيّر الحياة من وجهها شيئاً.