خطيب جامعنا هذا الأسبوع اختار قضية الإعداد لجرائم عنف جديدة موضوعاً لخطبته. لقد هاجم من وصفهم ب "الفئة الضالة"، ورَبَطهم بالخوارج، ونقل آراء العلماء في شأنهم، وحث المصلين على التنبه لخطرهم على الدين والمجتمع معاً. كانت الخطبة "مسيسة" بالكامل، وأورد الخطيب نصوصاً من الكتاب والسنة "تجرّم" صنيع جماعات العنف، وترميهم بالغلو والجهل والخروج على السلطان. وفي ختام الخطبة دعا الخطيب الله أن يحفظ أمن البلاد، وأن يرد كيد أعدائها في نحورهم، وأن يسبغ"علينا نعمه ظاهرة وباطنة". لم تكن الخطبة هي"الظاهرة السياسية"الوحيدة التي شهدها الجامع ذلك اليوم، فقد وفر الإمام الخطيب منشوراً يأخذه من شاء، احتوى على فتوى هيئة كبار العلماء بشأن المقاصد والأعمال الإجرامية للفئة الخارجة على النظام. وقد شاهدت الكثير من المصلين"يأخذ نسخته"من المنشور، باهتمام أثارته لديهم كلمات الخطيب الصادرة عن حمية وغيرة ورؤية سليمة للمشهد السياسي. في المساء قابلت صديقي الساكن في حي غير الذي أسكنه في مدينة الرياض، فأخبرني أن خطيب حيّه تحدث عن الموضوع ذاته، وأضاف:"كثيراً ما يتحدث في خطبه عن هذا العنف الهمجي، ويدينه، ويدعو الآباء والأمهات إلى تحذير أبنائهم من خطره". حسناً، لكن هناك من يدعو إلى عدم"تسييس"الدين، والنأي بخطبة الجمعة عن السياسة، وقصرها على الوعظ وترقيق القلوب والترغيب والترهيب. إذا تحدث خطيب الجمعة عن مأساة العراق، وجد من يتهمه"بالتسييس"الذي هو حق مطلق لهذا الكاتب أو ذاك من أعطاه وحده هذا الحق؟. وإذا تحدث عن الإرهاب الأميركي والإسرائيلي وجد من يطالبه بالصمت، لأن"المساجد يجب أن تظل بعيدة عن الصراعات والمهاترات"، لكنه مطالب، وبقسوة تصل إلى حد الاتهام، بالحديث عن إرهاب آخر، هو ذلك العنف الذي تمارسه الجماعات الخارجة على القانون. الخطيب مطالب بالحديث عن جزء من السياسة، وليس كل الشأن السياسي، مطالب بتبرئة نفسه من"الإرهاب"، والبراءة من أهله، وليس له التعليق على أي حدث سياسي آخر في الكون. إن سكت خطيب الجمعة عن إدانة العنف، فهو ضالع فيه، أو متواطىء معه، أو ساكت، والسكوت علامة الرضا، والساكت عن الحق شيطان أخرس. وإن تحدث مثلاً عن العراق وفلسطين، فهو"يسيس"ديناً يجب أن يبقى"منزهاً"عن الخوض في"وحل"السياسة. لكن، لماذا تخوضون في الوحل وحدكم، وهناك من يعشق الوحول كما تعشقونها؟ مسكين خطيب الجمعة، إنه مطالب بدور محدد في إطار رؤية علمانية متناقضة ومتحاملة:"لا شأن للإسلام بالسياسة إلا في حالات نقررها سلفاً". من نماذج الكتابات الكثيرة التي ترمي الخطباء بصمت القبور، واللامبالاة بجرح الوطن، ما ساقه حماد السالمي في عموده في صحيفة"الجزيرة"السعودية في 6 أيار مايو 2007، حيث تساءل:"من منكم لم يسمع، أكثر من خطيب جمعة، وهو يبكي على حادثة في شرق الدنيا أو غربها، يأتي ذلك صبيحة أو بعيد حادثة تفجير في واحدة من مدننا، لكن مثل هذه الحوادث المرعبة، التي تستهدف وحدة وأمن الوطن والمواطنين، لا تحرك في هذا الخطيب المواطن ساكناً، فلا يبكيه ولا يعنيه، مثلما عناه وأبكاه عدوان بعيد عن وطنه وبني جلدته.."كيف استطاع الكاتب أن يؤسس هذا الزعم؟ ومن أين له التأكد من صدقيته على امتداد مساحة الوطن، وكثرة جوامعه وخطبائه؟ يروى أن رجلاً من مرو زار بغداد، فالتقى هناك رجلاً قام باستضافته وتكريمه عدة أيام إلى أن قفل عائداً إلى مرو. وبعد بضع سنوات ذهب البغدادي إلى مرو، فوجد الرجل الذي استضافه في بغداد، لكنه أنكره ولم يعرفه. حاول البغدادي تذكيره فلم يتذكر، أو رفض التذكر. قام البغدادي بخلع عمامته، آملاً أن يتذكره المروي، لكنه أصر على إنكاره. هنا خلع البغدادي معطفه، فصاح به المروي: يا هذا لو خلعت جلدك ما عرفناك. هذا هو شأن خطيب الجمعة ونفر من الكتاب! لكن بالمناسبة: هل حظي مشروع هدم باب المغاربة ويسمى أيضاً باب النبي الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ليلة الإسراء باهتمام خطباء الجمعة، أم أن بعبع"تسييس"الدين قد غيب القضية، وتوارى الأقصى عن أجندة الخطبة، وقد كان سابقاً قلبها ومحورها؟ * كاتب سعودي.