على الرغم من أهمية خُطب الجمعة ودورها الدعوي الحقيقي في التأثير على فكر وسلوك المجتمع، وعلى الرغم من الزخم الكبير الذي تكاد تنفرد به في بث رسائل الوعظ والنصح والتوجيه الديني، إلاّ أن الملاحظ انحسار هذا الدور وتراجعه، إذ يكاد يخرج بعض المصلين من الجامع كما دخلوا دون أن يلمسوا فارقاً أو تأثيراً إيجابياً يغير بعض أفكارهم وسلوكياتهم الخاطئة، أو يعزز ويذكرهم ببعض القيم والفضائل الأخلاقية الهامة. وتُعد "خطبة الجمعة" ذات أهمية كبيرة لأفراد المجتمع، الأمر الذي يتطلب استغلالها واستثمارها في كل الظروف والأحوال، عبر عناية الخطيب بموضوع الخطبة والاستعداد لها بوقت كافٍ، وكذلك انتقاء الألفاظ والعبارات الجميلة المؤثرة، كذلك على وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد -وهي المعنية في إشرافها على تعيين الخطباء- أن تبتدىء بحسن اختيار الخطيب ثم تأهيله ودوام التواصل معه في كل ما يعينه على واجبه، من حيث المراجع العلمية والمناسبات الموسمية، وكذلك تقويم الأداء والنظر في استجابة الخطيب وتفاعل المأمومين مع الخطبة. تراجع ملحوظ وقال "د.عيسى الغيث" -عضو بمجلس الشورى-: إن منبر الجمعة هو الوحيد الذي يحضره الجميع وجوباً، إذ لا يكاد يتخلف عنه أكثر الناس تقصيراً في أمور دينهم، مضيفاً أنه مهما كان مجتمعنا طيباً ومحباً للخير، إلاّ أنه بحاجة دائمة إلى التوجيه في كثير من الأمور الحياتية، ومن هنا كان التأكيد الدائم على العناية والحرص على دور هذا المنبر الذي شرع لاستطلاع واقع البيئة الجغرافي والتاريخي والاجتماعي في الدولة والمدينة والحي السكني، مُشدداً على أهمية التركيز على ما يهم المجتمع بصورة مناسبة لكل حادثة، مشيراً إلى أن مساجدنا ولله الحمد لا تخلو من خطباء يحترمون الخطبة والناس، ويحضّرون لموضوعها ومحاورها جيداً، لهذا يحرص أهل الحي على الذهاب للمسجد مبكراً وقد يأتون إلى هذا الخطيب من أحياء مجاورة؛ لأن خطبته جامعة مانعة، وأداءه متميز يلامس بكل شفافية ما يشغلهم ويعنيهم. وأضاف: هناك تراجع ملحوظ في تأثير أداء منبر الجمعة على المجتمع، مع أن خطب الجمعة التي نسمعها ونراها نجدها من حيث الوقت أطول من الوقت الذي كان متعارفاً عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة، ذاكراً أن موضوعاتها في السابق كانت من وحي الواقع، لهذا كانت قوية ومقنعة ومؤثرة، مما أنعكس إيجاباً على علاقة الناس آنذاك بالمنبر والخطيب. د.الغيث: أسلوب الخطيب سبب في تراجع تأثير منبر الجمعة ضبابية الأهداف وأوضح "د.الغيث" أن نسبة كبيرة من الأسباب التي تتعلق بتراجع تأثير منبر الجمعة على حياة الناس وسلوكهم وعاداتهم تعود للخطباء ومنظورهم لأهمية تلك الشعيرة، هل هي رسالة هادفة وقضية مؤثرة في نفوس المصلين؟، أم هي واجب روتيني يجب أن يؤدى من باب إسقاط الفرض، مضيفاً أن أهم أوجه القصور في أداء بعض الخطباء هي عدم وضوح الأهداف للخطبة وكذلك عدم العناية بالموضوعات، إضافةً إلى نقلها وتفريغها من خطب سابقة، إلى جانب ضعف مستوى أداء الخطيب ومدى معايشة الخطبة لواقع المصلين، متسائلاً: ماذا ينفع الناس حينما يتكلم الخطيب في شيء ليس له ثمرة، وحينما يكون بطرحه ومناقشته لموضوع ما في وادٍ والمتلقين في وادٍ آخر؟، مستشهداً بمن يتحدث عن أمور سياسية واقتصادية ليس للمتلقي علاقة بها، بل ربما تزيد مواجعه أو قد تضلله فكرياً، متسائلاً مرةً أخرى: لماذا لا يتعرف على ما يحتاجه ذلك الحي الذي قد يكون أبناؤه وساكنوه لهم أخطاء سلوكية؟، وقد يكون على أهالي الحي في تعاملاتهم مجموعة من المحاذير الشرعية أو النظامية والأخلاقية، ذاكراً أن بعض الخطباء يشغل الناس ويضلل عقولهم ويحرضها على أمور لا تحقق المصلحة من خلال تناولهم لقضايا سياسية واقتصادية حساسة. وأضاف: بعض الخطباء يمكثون في ذات الحي وذات الجامع لسنوات طويلة ورغم ما يعاني منه الحي من مشاكل شرعية ونظامية وأخلاقية وسلوكية لم يتغير منها شيء؛ لأنه لم يهتم بهذه الأمور، فهو بداية كخطيب لم يراجع أداءه ومدى تفاعل المصلين معه، كما لم يستطلع هل تغير أو تأثر أحد ما من أهل الحي الذي يفترض أن يكون قريباً منهم بعد مضي سنوات عدة وهو بينهم. د. عيسى الغيث د. سامي الماجد د. إبراهيم السماري عبدالعزيز الشبرمي تنقل الخطيب وحول إعادة الدور الهام لمنبر الجمعة وتأثيره على المجتمع أكد "د.الغيث" على أنه يبدأ من وزارة الشؤون الإسلامية، فهي المسؤولة عن منابر الجمعة، مضيفاً: "يجب أن يكون هناك مفاضلة ومعايير تكشف مدى تأثير خطب الجمعة على المجتمع، وكذلك متابعة أداء الخطيب وتقويمه من خلال عدة مقاييس"، مطالباً الوزارة بالعمل على عدم بقاء الخطيب بنفس المسجد لأعوام، بل يجب أن ينتقل إلى أحياء أخرى منعاً لتكرار الموضوعات، وحتى يستفيد المصلون، إضافةً إلى تقنين دخوله بدخول الوقت فوراً، وأن لا تزيد المدة عن عشر دقائق فقط أو ربع ساعة حتى لا يشعر الناس بالملل، لافتاً إلى أهمية الاستفادة من الوسائل الالكترونية الحديثة كعرض "البروجكتر"، ذاكراً أن هذا من باب تحقيق الحكمة الربانية والتشريعية لهذه الخطبة، وهو جائز ومستحب لتحقيق هذه الرسالة، في حين أن هناك من يقف ضد بعض خطباء المساجد إذا اجتهدوا ويستنكرونه عليهم. د.الماجد: البعض يراها واجباً يلقيه ليستريح! تعزيز وتحفيز وقال "د.إبراهيم السماري" -مستشار حكومي-: إن خطبة الجمعة وسيلة إعلامية بالدرجة الأولى وعصرنا هو عصر الإعلام المؤثر، وتأثيرها يمتد بحسب قدرة وشهرة الخطيب، وانتشار الخطبة بحسب أهمية الخطيب والمكان كما هي الحال في خطب الحرمين وفي خطب كثير من الدعاة المشهورين، حيث يتم نشر تلك الخطب في يومها عبر وسائل ووسائط الاتصال ومواقع "الإنترنت"، مما يجعل تأثيرها يتعدى لحظتها الزمنية وحدود المكان، مضيفاً أن من خصائصها الهامة الصبغ بصبغة دينية، مما يعطيها أهمية أكبر في المجتمع المتدين، كما أن هذا يجعلها أقوى تأثيراً من المقالات والبحوث ونحوها. وعن دائرة ضبط مسؤولية خطبة الجمعة وخطيبها والمطلوب منهما، أفاد أنه لابد من التركيز على قدرة خطبة الجمعة على ترسيخ العلاقة بين التربية والأمن؛ لأنهما يجتمعان في صعيد واحد يمثل منطلق كل إنسان؛ فالتربية ضرورة من ضرورات سلامة النسيج الاجتماعي وصحة العلاقات بين أفراده تعاملاً وإنتاجاً، والأمن ضرورة أخرى لهذا النسيج ولهذه العلاقات؛ لأنه بمختلف مجالاته نعمة من الله عز وجل، مُشدداً على أهمية تضافر جهود الأفراد والجهات لأداء هذه المسؤولية كل في حدود ما أوجبه الله عز وجل عليه، ناصحاً بأهمية التدريب في إعداد خطيب الجمعة، وبعد تطور التقنيات في هذا العصر، وشيوع التعليم عن بعد؛ أصبحت هذه الأهمية ميسرة، فالإلقاء أصبح علماً قائماً بذاته، له سماته وخصائصه وتقنياته الثابتة والحركية، ولابد من إجادة الخطيب لها، مبيناً أنه من المهم ممارسة الجهة المختصة مسؤولية المتابعة في جانبيها السلبي والإيجابي، فكما أنها مسؤولة عن تقييم وتقويم ومتابعة سير هذا العمل بحكم الاختصاص؛ فكذلك هي مسؤولة عن تعزيز وتحفيز الخطباء المتميزين في خطبهم، وفق معايير مكتوبة ومحددة سلفاً، متمنياً أن يكون هناك توازن في خطب الجمعة، عبر التركيز على المستجدات والمتغيرات. د.الماجد: البعض يراها واجباً يلقيه ليستريح! د.السماري: الإلقاء علم قائم بذاته وتأثيره يعتمد على قدرة كل خطيب د.الشبرمي: نحتاج للأكفاء الذين يؤثرون بأفعالهم قبل أقوالهم إلقاء سردي وبيّن "د.سامي بن عبدالعزيز الماجد" -عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أن مسؤولية تراجع تأثير خطبتي الجمعة يلقى على عاتق الخطباء، ومن هنا على الخطيب أن ينصف الناس من نفسه، قبل أن يرميهم بالتقصير والإهمال والتشاغل عن الإنصات للخطبة والإقبال على الخطيب، عليه أن يرجع على نفسه باللائمة والنقد، في طريقة إلقائه وفي أسلوبه وفي طريقة تناوله للموضوع الذي يخطب عنه، وليسأل نفسه: هل موضوع الخطبة يلامس حاجة المصلين الروحية والشرعية ومشكلاتهم وهمومهم التي للمنبر دور في معالجتها وحلها؟، مضيفاً أن كثيراً من الخطباء لا يحضّر لخطبته، ولا يجتهد في تجويد أسلوبها وطريقة إلقائها بما يأسر القلوب، ويلفت الأنظار، بل ينقلها من غيره كيفما اتفق، وليته إذ نقلها اجتهد في طريقة إلقائها، بل يليقها سرداً كما لو كان في درس تعبير وإنشاء!، لذا تموت الكلمات بين شفتيه قبل أن تصل أسماع المأمومين، ويصبح حاله كحال كثير من المأمومين، يشعر أن خطبة الجمعة مجرد واجبٍ هَمّه أن يلقيه ويستريح منه!، متسائلاً: ألم يبحث الخطيب يوماً عن جواب هذا السؤال: لِمَ كانت السُنة في قِصَر الخطبة وإطالة الصلاة؟، ذاكراً الجواب في كونها محكومةً بالحديث عن المُحكَم من شريعة الله، محكومة بنَفَس الموعظة ترغيباً وترهيباً وتعظيماً، وتعليم فرائض الدين، وما كان هذا بابه فقَدَره الإيجاز، وتلاوة المعجز البليغ من آيات الكتاب وأحاديث السنة. وأضاف: ألم يسأل الخطيب نفسه: لِمَ استنصت الشرع الحكيم له الناس؟، حتى سقط وجوب تشميت العاطس، وردِّ السلام، وحَرُم على المأموم مَسّ الحصى والعبث والإمام يخطب، أكان ذلك كله من أجل أن يستمع الناس لمحض آرائه واجتهاداته في الدين وقضايا الواقع؟، وما الذي جعل لآرائه واجتهاداته مزيةً على غيره يُستخرج من أجلها الناسُ من بيوتهم، ويؤمرون بترك أعمالهم، أكان ذلك من أجل أن يُسمعهم الخطيبُ رأياً خطيراً من بادئ رأيه، يراه اليوم ثم يرجع عنه بعد تروٍ ونظر؟، أم من أجل ما يلقيه على أسماعهم من نص مقدس، وموعظة يدل عليها ذلك النص المحكم؟. عدم استعداد وأكد "د.عبدالعزيز الشبرمي" –قاض سابق– على أن تأثير خطبة الجمعة بدأ يتراجع في الآونة الأخيرة، وذلك لعدة أسباب؛ منها عدم وجود الأكفاء من الخطباء الذين يؤثرون في الناس بسمتهم وأخلاقهم وأفعالهم قبل أقوالهم، وكذلك البعد من قبل بعض الخطباء عن الهدف الأساسي للخطبة وهو تنمية الوازع الديني وتقويم السلوك والأخلاق وحسن التعامل والتفقه في أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات والمعاملات، إضافةً إلى إنشغال الناس بالسهر ليلة الجمعة وعدم استشعار فضيلة التبكير لها، والدنو من الإمام، إلى جانب عدم الاستعداد النفسي والذهني للاستفادة من خطبة الجمعة، مضيفاً أن الخطبة واجب شرعي دائم يجب أن تستغل وتستثمر في كل الظروف والأحوال، ومن ذلك عناية الخطيب بموضوع الخطبة والاستعداد لها بوقت كافٍ وانتقاء الألفاظ والعبارات الجميلة المؤثرة، مشيراً أنه على وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد وهي المعنية في إشرافها على تعيين الخطباء أن تبتدأ بحسن اختيار الخطيب للجمعة، ثم تأهيله ودوام التواصل معه في كل ما يعينه على واجبه العظيم، من حيث المراجع العلمية والمناسبات الموسمية، وكذلك تقويم الأداء والنظر في استجابة الخطيب وتوائم المأمومين معه، فلا يكون المنبر حكراً على خطيب لا يحسن خطبته أو يبغضه جماعته، إلى جانب تزويد الخطيب ببرامج حاسوبية تنفعه في خطبه وترشده في عباراته بعيداً عن مصادرة اختياره وذائقته وإبداعه.