ليس الأمر مجرد خطب على مسرح الكلمات المزدهر في بلد لا يمل الكلام، ولا مشاهد تعد بإتقان لجذب مواطن عادة ما يشغله حصاده اليومي أو الشهري من الليرات المتأرجحة القيمة عن المعارك الأزلية للنخبة. ما حدث تجاوز التصعيد الإعلامي بل كان أبعد من استدعاء الشارع لضرب الديموقراطية تحت غطاء الحفاظ على مبادئ الدولة وأسسها. ما جرى خلال أيام قلائل في تركيا يغترف من البعيد، ويهدد بتخريب المستقبل، طالما أن نقطة المصالحة التاريخية التي بدت في الفترة الأخيرة قريبة، عادت لتفر أمام أزمة مزمنة شاخت عمراً ونضرت وجهاً، والأخطر هو السعي لتحطيم ما بدا أنه نتاج حقبة استبصار بأولوية التقدم الوطني على الرغبة في مواصلة تصفية فاشلة للآخر. نحن بالفعل في تركيا التي تعيد إنتاج نفسها في صور جديدة وأشكال أخرى، لكن المضمون لم يتغير مما يعني أنها تنتقل من"ردة"عن الديموقراطية الى أخرى بذات المعدل القديم كل عشر سنوات تقريبا. الجيش يصنع انقلابا ابيض آخر على غرار ما فعل عام 1997 ضد حزب"الرفاه"الإسلامي الذي خرج من عباءته"حزب العدالة والتنمية"الطرف الثاني في المعركة الراهنة. انقلاب اليوم نفذته المحكمة الدستورية بالوكالة عن الجنرالات بإصدارها حكما بإلغاء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات. حكم قضائي أخطر ما فيه أنه كان متوقعاً. فقد صدر تلبية لمماحكة سياسية من حزب الشعب الجمهوري المعارض الضعيف الذي ركب موجة رفض دخول الحجاب قصر الرئاسة. مثلث علماني وزع الأدوار بجدارة، الجيش أوحى، والحزب حمل الطلب، والمحكمة الدستورية أطلقت رصاصة المنع. ديناميكية تخصم من رصيد الأطراف الثلاثة، بل ومن مشروع التغريب الأتاتوركي الذي تظهر هذه الأطراف دفاعها عنه، لأن جوهره الديموقراطية ومبدأ العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة كما هو معلن، في حين أنه تجلى في الكثير من الممارسات حرباً من الدولة على الدين، وفي أخرى تبدى استقواء منها به لمواجهة الآخر الأيديولوجي والجغرافي والثقافي، الآخرالمطلوب استيلاده من الذات المرفوضة باسم التخلف والرجعية، في معادلة تناقضية تقتنص طابعها التركي بامتياز، فالدولة ذاتها هي التي استدعت الدين لمحاربة الشيوعية في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، والعسكر ذاتهم هم الذين حطموا بعض ما دشنه أتاتورك من ممارسات لحصر الدين في النفوس، وسمحوا للمتدينين بالخروج الى الشارع. كما أن النخبة العلمانية ترتدي عباءة الدين عندما تفسر النهج الإقصائي للأوروبيين تجاه تركيا، وهناك من رموزها من قاد حملات للدفاع عن الدين ضد أنشطة تبشيرية مسيحية في إطار عملية"أوربة"يبدو الدين عامل ممانعة لها، على غرار ما فعل رئيس الوزراء التركي الراحل والزعيم السابق لحزب اليسار الديموقراطي الراحل بولنت أجاويد عندما استصرخ الحكومة ذات الجذور الإسلامية لمواجهة الحملات التبشيرية قبل حوالي عامين، بل إن زوجته اتهمت هذه الحكومة بغض النظر عن هذه الحملات التي صورتها مع زوجها على أنها تستهدف تحويل كل مسلمي تركيا إلى مسيحيين كحل لإشكالية الممانعة التي تطرح نفسها في التعامل مع الحلم الأوروبي. ومن اعراض الخلل و"الرجعية"السياسية في المنتج الأخير للتجربة التركية، استخدام حزب الشعب الجمهوري والنخبة العلمانية للشارع بحشد مئات الآلاف من الأتراك للاعتراض على فعل ديموقراطي هو انتخاب رئيس من حزب يمتلك الأغلبية التي تؤهله لذلك. والمؤسف أن المشاركين في التظاهرات حتى لو بلغ عددهم المليونين كما ادعى منظموها، يمثلون الأقلية وليس الأغلبية، وكان بإمكان"حزب العدالة والتنمية"استنساخ المشهد الأوكراني بتسيير تظاهرات مماثلة، وربما أكبر حجما وأعلى صوتا، لكنه آثر عدم تحويل الشارع الى ساحة لمعركة سياسية خشية عدم السيطرة عليه، كم أنه تجنب تحويل نفسه الى الآخر المحدد من قبل العلمانيين وهو المناهض لمبادئ الدولة المعادي للعلمانية. ومهما قيل في سياق تهويلات خطابية مستهلكة فإن صور الأعلام التركية الحمراء ذات الهلال والنجمة الأبيضين في شوارع اسطنبول لا يمكن أن تغتصب مكانة الاغلبية، فحسب استطلاعات أشرفت عليها مؤسسات أوروبية، فإن خمسة وستين في المئة من الأتراك متدينون يمارسون فرائض الإسلام والنسبة ذاتها تقريبا من النساء محجبات. تركيا الأخرى يقدر عدد أنصار الطرق الصوفية فيها بالملايين، وعدد الذين يرتادون المساجد اكبر بكثير بالقياس الى المترددين على الملاهي، بغض النظر عن انحياز الجيش والقضاء والإعلام لثقافة الأقلية، التي يضعفها تمترسها وراء الدبابة والسطوة الأبوية لأتاتورك، ضعف فضحته صناديق الاقتراع في انتخابات عام 2002 والمرجح أن تعيد الانتخابات المبكرة التي ستجري قريبا تأكيده. غير أن متتاليات تركيا صعبة الكسر حتى مع امتلاك الأغلبية، فقد نجح"حزب العدالة والتنمية"في تحقيق إنجازات واضحة وكسر محرمات عدة، لكنه لم يستطع حتى عندما كان يمتلك أغلبية الثلثين في البرلمان أن يزيح محرم الحجاب، حيث كان بإمكانه نظرياً على الأقل إلغاء الحظر المفروض على ارتدائه في الجامعات وبين الموظفات في مؤسسات الدولة، لكن الخوف التاريخي من غضب الجيش قتل المبادرة، فبقي الحجاب مظهراً صراع الهوية الأول، طالما أن العسكر ومن وراءهم من العلمانيين يرتبونها على هذه الصورة: كل محجبة رجعية وهي تناهض الدولة وتكره أتاتورك، ومن يؤيد حجابها من فصيلها نفسه، عداء جرى تعميقه بقوة، وكل مناسبة وطنية فرصة تقليدية للزج به على السطح والترهيب به ومنه. غير أن القراءة الأمينة لما يجري في تركيا تستدعي تأمل الطرف الثاني المتمترس وراء صورة المظلوم حتى وهو في السلطة. لقد تبنى"حزب العدالة والتنمية"على مدار ما يقرب من خمسة أعوام في الحكم منهج المكاسب البطيئة غير الملحوظة، مستغلا الحلم الأوروبي وما صاحبه من إصلاحات كاسحة، لكن الحجاب ظل المقدس المنبوذ حتى في ظل ظهور زوجات رئيس الوزراء ورئيس البرلمان وعدد من الوزراء وهن يرتدينه في أماكن ما كان يسمح بدخوله لها. وبعد ما جرى سيلجأ الحزب للعبة اللائمين، خاصة في إطار حملة انتخابية شرسة، لكن ثمة ما يدعو للقول بتقسيم اللوم مع الاعتراف بتفاوت النسب، فقد كان بإمكان هذا الحزب دخول القصر الرئاسي من دون حجاب، لكنه آثر اقتناص فرصة تصفية الحسابات التاريخية مستغلاً سلاح الشرعية أيضا، فالإصرار على ترشيح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية عبدالله غل للرئاسة، فيه تجاهل لحساسية فعل إلحاق الهزيمة بالآخر معنويا في صراع مستعر يقترب عمره من منتصف العقد التاسع، ويبدو أن مئويته ستحل دون أن يتزعزع جوهره، تركيا المسلمة أم المتغربة. لقد ظهر"حزب العدالة والتنمية"كمحصلة لفشل الإسلاميين المحافظين في تحقيق أهدافهم، وبدا أن رجب طيب أردوغان هو التلميذ النجيب الذي استوعب أخطاء استاذه نجم الدين أربكان أبي الأحزاب الإسلامية الذي طرح أفكارا ربما كان من الممكن تنفيذها في أي بلد إلا تركيا، ومنذ تأسيس الحزب في آب اغسطس 2001 وأردوغان ورفاقه لا يفتأون يظهرون منهجا توفيقيا، مؤكدين التزامهم بالعلمانية، لكن في اللحظة الحاسمة غاب منطق التنازل من أجل الوطن، ودخل الحزب معركة اختبار قدرات فشل فيها، لأنها كانت ملونة بتسييس فاقع لا بشرعية مستقرة. لقد طرح"حزب العدالة والتنمية"نفسه كتيار مصالحة تاريخية بين الإسلام السياسي والقيم الديموقراطية حتى وإن لم يخلص النيات للعلمانية التي عادة ما تصاحب الديموقراطية في الخطاب الأتاتوركي التقليدي، غير أنه افتقد روح هذه المصالحة في معركة انتخابات الرئاسة، وكان بإمكان رئيس زوجته حاسرة الرأس مثل وجدي غونول وزير الدفاع ورجل القانون المقبول من الأوساط العلمانية أن ينفذ أجندة ملونة، غير أن اللعبة غلبت اللاعب، فسيطر عليه تحفز منتظر"الوعد الإلهي"! ان الحديث عن إمكانية تجنب ما حدث يدخل في إطار اللاجدوى، ويبقى الأهم هو قابليته للتكرار، فانتخابات الرئاسة عادت الى المربع رقم واحد، والجيش يبقى مراقبا ومحذرا ومرجعية أعلى لمن يتبارون في المشهد السياسي ولا تقلل من ذلك بادرة التحدي من"حزب العدالة والتنمية"، والقضاء يحافظ على دوره كسد في وجه الإسلاميين جدداً وقدامى، والإسلاميون المجددون قد لا يكبحون الرغبة في إزالة ألم النبذ والإقصاء، بسلاح التفويض الشعبي الذي سيقاتلون من أجل الحفاظ عليه، والمعارضة العلمانية ستحارب من أجل مشروع أتاتورك وأيديولوجيته التي تحولت إلى دين أعلى من الدين، والمحصلة دورات جديدة من الصراع الذي يضعف ركائز الدولة وبينها الاقتصاد المتعافى من الأزمات، ويبعد تركيا عن دور القوة الإقليمية الكبرى في منطقة تشهد تحولات تختلط فيها التهديدات بالمغانم، والأسوأ ضرب المشروع الأوروبي الذي خطط له أتاتورك وحمله"حزب العدالة"على كاهله وحقق منه ما لم يفعله أي حزب علماني، وهذا وجه من تناقضات تركيا المدهشة! * كاتب مصري