لم يخطئ الذين وصفوا حدث الساعة التركي بأنه زلزال. ذلك انه ما خطر ببال أحد أن يأتي زمان يوجه فيه حزب محسوب على التوجه الإسلامي ضربة قاضية إلى كل الأحزاب العلمانية الأخرى، في تركيا بوجه أخص، حيث تمكنت من السلطة وهيمنت على النخبة منذ حوالي ثمانية عقود أصولية علمانية شرسة، خاصمت الإسلام وحاصرته، ولاحقت مظانه حيثما وجدت. وشأن بعض الزلازل القوية، فان الهزات تلاحقت بعد وقوعها، مثيرة ألف سؤال حول الذي كان وسيكون، مقرونة بما لا حصر له من علامات التعجب وآيات الدهشة. (1) ليس الأمر مقصوراً على الاكتساح الذي تحقق، وبمقتضاه حصل حزب العدالة والتنمية، على 3.43% من أصوات الناخبين، ومن ثم فاز ب 363 مقعداً من اصل 550 مقعداً للبرلمان، الأمر الذي وفر له أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً. ولكن الاكتساح كان قوياً بحيث أدى إلى إخراج كل الأحزاب العلمانية الأخرى الخمسة عشر. ليس فقط من البرلمان، ولكن من الحياة السياسية كلها، باستثناء واحد فقط (هو حزب الشعب الجمهوري). إذ لم يحصل أي من تلك الأحزاب على نسبة 10% من الأصوات التي تسمح لها بدخول البرلمان طبقاً للنظام المعمول به هناك، وهو ما دعا أحد الباحثين المختصين بالشئون التركية إلى وصف ما جرى بأنه "انتصار ساحق.. أسفر عن تصفية طبقة سياسية بكاملها بصورة غير مسبوقة، بما يمكن تشبيهه بإبادة جماعية" - (د. محمد نور الدين -الحياة اللندنية - 9/11). الذي لا يقل إثارة عما سبق أن حزب العدالة لم يفز بأصوات الفقراء والمسلمين المتدينين فحسب، وإنما صوتت لصالحه بقوة المناطق مرتفعة الدخل، لا سيما في الغرب التركي، التي حصل فيها على ثلث الأصوات، وكانت حظوظه اكبر في المدن الكبرى، وعلى رأسها استنبول (التجارية) وأنقرة (العلمانية) وازمير. كما كان تقدمه كبيراً في مناطق العلويين والأكراد. وهو ما يسوع لنا أن نقول إن النتيجة التي تحققت كانت استفتاء شعبياً على تأييد حزب اردوغان (الذي اكتسب شعبية واسعة وثقة كبيرة منذ انتخب رئيساً لبلدية استنبول في عام 94، وتآمرت عليه بعد ذلك القوى العلمانية حتى سجن أربعة أشهر وحرم من مباشرة حقوقه السياسية). وهو التأييد الذي امتزج مع درجة عالية من الغضب والاحتجاج على ممارسات الطبقة السياسية التركية، التي كانت تعاقبها بمثابة حلقات متتالية من الفشل والفساد. (2) أصداء الزلزال جاءت متنوعة، وبعضها كان متوقعاً، خصوصاً في بلد تحولت فيه العلمانية إلى دين، يعلو فوق كل الأديان. حيث يسمح للمرء بأن يكفر بالأديان وينكر وجود الله، لكنه لا يستطيع أن يرفض العلمانية او ينتقد كمال اتاتورك. لكن اكثر ما لفت نظري في الأصداء هو تلك الكتابات التي "اكتشف "أصحابها أن بين الإسلاميين أناساً معتدلين وديمقراطيين، وانهم أيضاً يمكن أن يكونوا أناساً عاديين، متحضرين ومحترمين! بسبب هيمنة النموذج "الطالباني " على الإدراك العام جراء كثافة التعبئة الإعلامية، اعتبر أولئك الكتاب انهم وقعوا على اكتشاف مثير حين وجدوا أن قادة حزب العدالة ظهروا حليقي الذقون، ويرتدون أربطة عنق وبدلات أنيقة، ويقولون كلاماً معقولاً ويمازحون الصحفيين، بل ويتضاحكون فيما بينهم، إلى غير ذلك من القسمات المناقضة للصورة النمطية التي كرسها وعممها الإعلام على الأذهان، وان عبرت عن بعض المنسوبين إلى الإسلام الذين أصبحت جماعة طالبان رمزاً لهم. ولان حزب العدالة خلا في مظهره وإطاره العام من التشوهات والنقائص التي جرى تصيدها للناشطين الإسلاميين، فان خصومه تركوا كل مشاكل تركيا الجسيمة وافتعلوا مع قادته معركة بسبب موضوع الحجاب، الذي حظرته الحكومات العلمانية في الجامعات ودواوين الحكومة. فشغلت صحيفتا "صباح " و "حريت " الرأي العام بالتساؤل عما اذا كان من الممكن أن تكون زوجة رئيس الحكومة التركية سيدة محجبة. وكان السؤال استنكارياً وليس استفهامياً بطبيعة الحال. وقال اكثر من كاتب إن ارتداء زوجة رئيس الحكومة الحجاب يسيئ إلى سمعة البلد، ويعني في الغرب أن الإسلام السياسي يمسك زمام السلطة في تركيا. ونشرت صحيفة "ميلييت " قائمة بأسماء قادة الحزب المرشحين لرئاسة الحكومة، وأرفقتها بمعلومات وصور لزوجاتهم، مشيرة إلى أن موضوع الحجاب سيكون عاملاً يوضع في الحسبان عن اختيار رئيس الوزراء الجديد. (معروف أن زوجة السيد اردوغان محجبة، وان ابنتيه اضطرتا لقطع دراستهما الجامعية في تركيا بسبب منعهما من دخول الجامعة بالحجاب، وسافرتا إلى الولاياتالمتحدة لاستكمال دراستهما هناك). وهو يهدئ من اللغط المثار حول المسألة، فان اردوغان قال لمن سأله إن حكومة العدالة والتنمية ستفعل ما تفعله أوروبا، التي اعتبرت الحجاب مسألة شخصية واختيارية، وليس للحكومة دخل بها. (3) اكثر ما حرص عليه قادة حزب العدالة أثناء حملتهم الانتخابية وبعد فوزهم، انهم عملوا جاهدين على طمأنة الرأي العام في الداخل والخارج، وإزالة آثار الصورة "الطالبانية " التي يلاحقهم البعض بها. وكان أحد كتاب صحيفة "حريت" بكير كوشكون قد كتب مؤنبا الناخبين الأتراك على اختيارهم، وقال إن أولئك الناخبين "قاموا باختيار لا يمكن تصديقه، ويسيء إلى جهود تركيا لكي تحتل مكانتها في الساحة الدولية ". وتناقلت وكالات الأنباء ضمن ردود الافعال الخارجية تصريحات الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان التي قال فيها إن انضمام تركيا المسلمة إلى الاتحاد الأوروبي تعني نهايته. في الوقت نفسه فان رئيس بلدية احدى قرى الشمال الإيطالي اسمه بييترو كوفيريو وقريته "بريمانا" تقع على ضفة بحيرة كومو قام بتنكيس علم الاتحاد الأوروبي احتجاجاً على فوز حزب العدالة، ونقل عنه قوله إن أوروبا المسيحية وإيطاليا الكاثوليكية تعيشان في خطر دائم، منذ إعلان نتائج الانتخابات التركية! في مقابل ذلك، حرص قادة حزب العدالة في خطابهم التصالحي الذي أطلقوه على احترامهم للنظام العلماني والتزامهم بكل ما يحقق مصلحة الوطن فيه. كما حرصوا على كسب ود قادة الجيش، وهم يعلمون انهم بذلوا جهوداً مستميتة بالتعاون مع مختلف أجهزة الدولة للحيلولة دون تمكين الحزب من المشاركة في الانتخابات، والتنكيل بقادته على النحو الذي سبقت الإشارة إليه. في تصريحات منشورة قال الطيب اردوغان انه "تخلى عن أفكاره السابقة" حين كان عضواً قيادياً في حزب الفضيلة الذي تزعمه نجم الدين اربكان. أما نائبه عبد الله جول، فإنه حين سئل عما اذا كانت لديهم "اجندة " إسلامية، حاول أن يدفع "التهمة " وقال انهم ليسوا إسلاميين، ولكنهم أعضاء في حزب أوروبي محافظ، وغاية ما يمكن أن يوصفوا به انهم ديمقراطيون مسلمون، على غرار الديمقراطيين المسيحيين الذين لهم أحزابهم في الأقطار الأوروبية الأخرى. وفي حين قال عبدالله جول إن الجيش "مبعث لفخرنا " وانه يؤدي مهمته في خدمة الأمة، فان وكالة أنباء الأناضول نقلت عن رئيس أركان الجيش الجنرال حلمي اوزوك الذي كان في واشنطن حين تحقق الفوز قوله "إن النتائج جرت طبقاً للقواعد الديمقراطية، وان النتائج جاءت معبرة عن إرادة الشعب، وأنا احترمها ". (4) الأمر اعقد بكثير مما يبدو على السطح، والكلام الدبلوماسي والرقيق الذي صدر عن قادة الحزب ورئيس الأركان يخفي أزمة مكتومة، لا يعرف متى يمكن أن تفصح عن نفسها. ذلك انه لأول مرة منذ عقدين من الزمان على الأقل تتولى السلطة في تركيا حكومة قوية تتمتع بتأييد شعبي جارف، وليست خارجة من عباءة الاتاتوركية. وكان الضعف النسبي للحكومات السابقة سبباً في استقواء الجيش وتنامي دوره في الحياة السياسية من خلال هيمنته على مجلس الامن القومي الذي كان يمثل الحكومة الحقيقية في البلاد، بينما كانت الحكومة الشرعية المعلنة في أنقرة هي حكومة الظل، او قل إنها كانت حكومة صدى لمجلس الامن القومي الذي أنشئ في عام 61، وظل يمارس دوره كحارس للعلمانية الاتاتوركية، وكوصي على الحكومات المدنية في الوقت نفسه. وفي ظل تعديل دستوري تم في عام 82، أصبحت "توصيات " مجلس الامن القومي لها صفة الأولوية على جدول أعمال مجلس الوزراء. بحيث لم تعد الوصاية تعبيراً مجازياً وإنما توصيفاً لحقيقة العلاقة بين العسكر والحكومة. موقف قادة الجيش اصبح شديد الحرج الآن. فها هم يرون بأم أعينهم الفشل الذريع الذي منيت به الأحزاب العلمانية، والانهيار الذي أشهر إفلاس المشروع الاتاتوركي كله. ثم انهم اصبحوا في مواجهة حكومة قوية تتمتع بتأييد شعبي جارف، الأمر الذي لن يطلق يدهم في ممارسة وصايتهم التقليدية. كما اصبح من العسير عليهم القيام بانقلاب عسكري يحسم الأمر، كما حدث قبل ذلك أربع مرات. ولا تكمن الصعوبة هنا في شعبية وقوة حكومة حزب العدالة وحسب، ولكن أيضاً في تغير الظروف الدولية المحيطة، خصوصاً موقف الاتحاد الأوروبي، الذي تحرص تركيا بشدة على استرضائه للانضمام إليه. والمعروف أن دول الاتحاد تعتبر أن تركيا غير مؤهلة للانضمام إليه بسبب سجلها في مجال احترام حقوق الإنسان. وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قوله إن تركيا لا تزال بعيدة عن المعايير الديمقراطية التي تسمح لها بالانضمام إلى الاتحاد. في هذا الصدد، لا يمكن تجاهل التحذير الذي وجهته واشنطون إلى أنقرة قبل إجراء الانتخابات، من مغبة استصدار قرار قضائي بمنع حزب العدالة والتنمية من المشاركة في الانتخابات. وكانت بعض عناصر التطرف العلماني التركي قد حاولت قبل عشرة أيام من موعد الانتخابات تحريك دعوى ضد الحزب، مطالبة بحله ومنعه من المشاركة فيها على أساس انه حزب إسلامي يشكل تهديداً للنظام العلماني. (5) اذا وضعت هذه الخلفية في الاعتبار، ولاحظت أن رئيس الأركان التركي كان في زيارة لواشنطن بدأها مباشرة بعدما أدلى بصوته في الانتخابات التي كانت استطلاعات الرأي العام قد تنبأت برجحان كفة حزب العدالة فيها، إذا وضعت هذه المعلومات جنباً إلى جنب، فلن تجد صعوبة في إدراك المأزق الذي يواجه العسكر، الذين لم يكونوا سعداء بأن تتولى السلطة حكومة قوية ذات توجه إسلامي، وفي نفس الوقت يدركون أن أيديهم أصبحت مكبلة، بحيث لا يستطيعون أن يمارسوا هوايتهم في الانقلاب على الحكومة التي لا تتفق مع أهوائهم، ولا تمتثل لوصايتهم. ليست معروفة على وجه الدقة الأسباب التي دعت واشنطن لان تبعث برسالة التحذير إلى أنقرة، وان كان من غير المستبعد أن يكون دافعها إلى ذلك هو التأكيد على أنها ضد الارهاب وليست ضد الاسلام. كما انها حريصة على تجنيب تركيا احتمالات الوقوع في دوامة الفوضى بعد ثبوت عجز وفشل الأحزاب التقليدية في إدارة دفة الحكم. في حين انه تهمها للغاية تهدئة المسرح التركي في الوقت الراهن بوجه أخص، حيث يجري الإعداد للحملة العسكرية ضد العراق، علماً بان للأمريكيين قاعدة عسكرية مهمة في "انجريليك" يرابط فيها 1700 جندي بصفة دائمة. وبطبيعة الحال، فانه ما كان للولايات المتحدة أن تتخذ ذلك الموقف الإيجابي نسبياً إزاء حزب العدالة، ما لم تكن مطمئنة إلى اعتدال قادته والتزامهم بقواعد اللعبة السياسية في تركيا، والى أن الحزب يمثل نموذجاً مختلفاً عن الصورة النمطية للجماعات ذات التوجه الإسلامي. من اللافت للنظر في هذا الصدد أن العواصم الأوروبية على جملتها تعاملت بإيجابية مع نتائج الانتخابات التركية، واغلب الظن أن الرسالة الأمريكية جاءت مشجعة للأوروبيين على تبني ذلك الموقف، رغم أن هناك أصواتا أوروبية عبرت عن القلق مما يجري، ملوحة بالفزاعة الإسلامية المعهودة، لكنها ظلت دعوات استثنائية، لم تؤثر على التعامل الأوروبي مع الحدث. وكان ذلك الموقف الإيجابي اكثر وضوحاً في الصحف الفرنسية التي أجمعت على أن فوز الإسلاميين بالأغلبية البرلمانية في تركيا بمثابة "مناسبة تاريخية للمصالحة بين الإسلام والديمقراطية "، وانه يعد لذلك نجاحاً لأوروبا، وربما ساعد في إقامة جسر بين العالمين الإسلامي والغربي. (6) لا يعادل مأزق الجيش سوى همّء الحكومة الجديدة، التي تواجهها تحديات لا تحصى على الصعيدين الداخلي والخارجي، بعضها اقرب إلى العاهات التي تستعصي على العلاج. ويمثل التدهور الاقتصادي ذروة مشكلات الداخل، فخلال السنوات الخمس الأخيرة أغلقت 420 ألف مؤسسة أبوابها، وارتفع عدد العاطلين من مليون و 363 ألفا إلى مليونين و335 ألفا، وارتفع حجم الدين الداخلي والخارجي من 114.6 بليون دولار إلى 205 بلايين، إضافة إلى 120.5 بليون فوائد دين. وكان الدولار يعادل 150 ألف ليرة تركية، ثم اصبح يساوي مليونا ونصف المليون ليرة عشية الانتخابات. إلى جانب الهم الاقتصادي وثيق الصلة بأخطبوط الفساد الإداري، فهناك ملفات عالقة أخرى تخص قضايا الأكراد والعلاقة مع اسرائيل والقاعدة العسكرية الأمريكية، واحتمالات الحرب ضد العراق، وجهود الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ثم هناك أزمة الهوية التي تعانيها تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي، وملف الحصار المفروض على المتدينين في بلد 99% من سكانه مسلمون، في تعليمهم وتوظيفهم وألبستهم.. الخ هو حمل ينوء به ظهر أي حكومة، فما بالك بحكومة يضعها الجميع تحت المجهر كل يوم، وتمشي دائماً على الشوك، بينما يحيط بها عدد غير قليل من المتربصين والمتصيدين. بسبب من ذلك فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا أن تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة في هذه الظروف يعد اختياراً عسيراً ومغامرة كبرى. ولن يكون من المستغرب أن تبقي الحكومة الجديدة كل شيء على حاله مؤقتاً في أمور السياسة الخارجية، بحيث تنصرف إلى محاولة التصدي للهم الاقتصادي، الذي احسب انه يهم الناس اكثر من أي شيء آخر. وهو ما لاحت بوادره فيما نشر يوم الجمعة الماضي 8/11 من أن "حزب اردوغان لا يقطع مع اسرائيل ". رغم أن المشهد التركي المستجد لا يزال في بدايته، إلا انه يبعث إلى الجميع برسالة تقول إن الحل الديمقراطي هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في أي مجتمع، وان الإسلام المعتدل حاضر بقوة، وخياراته ينبغي ألا تكون مقصورة على الإقصاء والنفي والسجن، وانما يجب أن يضاف إليها خيار رابع هو: المشاركة.