آخر روايات الكاتب الأميركي فيليب روث تحمل عنوان "كل شخص". أخذ الكاتب عنوان روايته الصادرة في بريطانيا عن دار جوناثان كيب، من مسرحية بالعنوان نفسه لكاتب مجهول في القرن الخامس عشر. في المسرحية، التي كنا قرأناها في قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب، يخسر الرجل أصدقاءه وأسرته وثروته، ثم طاقته وجماله ومعرفته، ولا تبقى لديه إلا أعماله الحسنة. كتبت المسرحية في الفترة بين موت تشوسر وميلاد شكسبير. هي مسرحية رمزية، تنتمي إلى المسرح الأخلاقي، الذي كانت عروضه تقدم في المقابر، والموضوع الذي تدور حوله هو على الدوام الخلاص. تحث المسرحية على الإيمان بعالم آخر أجمل من الحياة على الأرض. إلا أن روث يضع قوة العقل في مواجهة النهاية."وحدها أجسادنا المولودة لتعيش وتموت بشروط حددتها الأجساد الأخرى التي عاشت وماتت قبلنا". بعكس بطل مسرحية القرون الوسطى، الذي يتخلى عنه الجميع، فإن بطل رواية القرن الواحد والعشرين يتخلى عن الجميع. إنه يترك زوجتيه وينبذ أخاه ولا يترك أحداً يلتفت إليه سوى ابنته من زوجته الثانية. وبعكس بطل المسرحية، أيضاً، حيث يروي سيرته وهو على قيد الحياة، فإن الرواية تنفتح على البطل ميتاً. ها هي المقبرة اليهودية في نيويورك وقد أحاط جمع من الناس بقبر، حفر تواً، يوارى فيه هذا الشخص المجهول الإسم الذي كان عاملاً في شركة للدعايات. في إحدى المقابلات الصحافية يتحدث فيليب روث عن تقدّم العمر ويقول:"أفكّر في همنغواي وفوكنر وكيف انتهى كل شيء بالنسبة اليهما، ثمل فوكنر حتى الموت، وأسرف همنغواي ايضاً في الشرب حتى لم يعد في وسعه الكتابة، ولم يعد ثمة شيء يحيا من اجله، لهذا السبب أطلق النار على نفسه. لا يسعني الاّ ان افكر كيف ماتا". هل أنت خائف من الموت؟ يسأل الصحافي فيليب روث. نعم. إنه مرعب ومهلك. التفكير فيه يهد القلب. من أجل كتابة هذه الرواية قضى روث إسبوعين في مقبرة يراقب حفار القبور يُهيئ الحفرة الأبدية لأشخاص أخذهم الموت فيدفنهم هناك مرة واحدة وإلى الأبد. اشتهر فيليب روث بثلاثيته المطولة: رعوية أميركية، تزوجت من شيوعية، اللطخة البشرية. واشتهر، أيضاً، بشخصياته الروائية التي غدت شخصيات واقعية تمتلك وجهات نظر في الحياة والسلوك البشري الجاري في هذا الزمان. الموضوعات الأثيرة لديه: عزلة الإنسان المعاصر ووحشته، المكارثية، الجنس، الإرهاب، العرق، الشأن اليهودي. كان فيليب روث حقق الشهرة لأول مرة مع رواية"وداعاً كولومبوس". رواية مؤلفة من خمس قصص قصيرة تدور كلها حول حياة عائلة يهودية متوسطة الحال. في الرواية الأخيرة يبدو الموت هاجساً شخصياً للمؤلف. لقد تقدم به العمر وباتت مواجهة الموت مسألة وقت لا أكثر. يقول روث: لقد رأيت الناس وهم يموتون، بالطبع. رأيت والدي يموتان، ولكنني لم أعايش الموت باعتباره شيئاً محزناً ومدمراً بلا حدود إلا بعد أن مات صديق طيب لي في نيسان ابريل الماضي. وقد كان من أبناء جيلي، ولم يكن في الاتفاق الذي بيني وبينه أنه سيرحل قبلي على هذا النحو، ولم أر الصفحة التي تتضمن ذلك في الاتفاق والأمر كما يقول هنري جيمس على فراش موته:"آه، ها هو يأتي، الأمر الجلل". كانت رواية"شكوى بورنوني"رفضاً ساخراً للموت. يبحث البطل عن الحرية من خلال الجنس بوصفه طريقة خلاص. يروي البروفسور هواجسه لطبيب نفسي حيث يهيمن الجنس على ذهنه بشكل هائل. يقول: كأنني على وشك اكتشاف قارة جديدة عن طريق الجنس. وجد كثر في الرواية نصاً بورنوغرافياً فاقعاً. كذلك تعرضت الرواية للنقد من جهة تناولها للشخصية اليهودية الأميركية في شكل سلبي. الحال أن الهوية اليهودية تهيمن في الروايات التي يكتبها روث ومن خلال هذه الهوية يمضي الكاتب ليتناول مسائل الانتماء والثقافة والتاريخ والأنانيات الجماعية. ولد فيليب روث عام 1933 في ولاية نيوجرسي التي غدت مسرحاً لأحداث معظم رواياته. كان والده بائعاً للضمانات في الخزينة النمساوية الهنغارية. في رواية"ميراث"1991 وصف فيليب روث والده الذي كان بلغ السادسة والثمانين وكان يعاني من ورم في دماغه ومع هذا لم يكن يجد صعوبة في إقناع الأرامل الثريات بأنه بالكاد يبلغ السبعين من العمر. حصل روث على ليسانس اللغة الإنكليزية ثم التحق بالجيش ولكنه سرح منه بعد أصابته أثناء التدريبات. بدأ بكتابة مقالات نقدية عن السينما لصحيفة"نيو ريبوبليك"وفي العام نفسه ظهرت روايته"وداعاً كولومبوس"التي حصلت على جائزة الكتاب الوطني ثم نقلت إلى السينما. دافيد كيتش هي الشخصية التي ما برحت تظهر في روايات فيليب روث منذ كتب روايته"الصدر"التي يحاكي فيها رواية"المسخ"لكافكا. في"الصدر"يتحول بطل الرواية دافيد كيتش إلى صدر امرأة. يعود دافيد كيتش ليظهر في رواية بروفسور الرغبة التي تروي سيرة البطل من الطفولة وحتى سن الرابعة والثلاثين. لايرغب روث أن يتحدث عن نفسه ولا عن أدبه بل عن الأدب في الإطلاق."ربما لا ينبغي أن نتحدث عن الأدب على الإطلاق". يقول:"ها.ها. سأشعر بأنني في حالة رائعة إذا صدر إعلان بحظر الحديث عن الأدب مئة سنة كاملة، إذا أُغلقت كل أقسام الأدب في كل الجامعات، إذا فُرض حظر على حديث النقاد. إن القراء ينبغي أن يكونوا وحدهم مع الكتب.وإذا جرؤ أحد على أن يقول شيئاً عن الكتب فينبغي القيام بإطلاق النار عليه. نعم، إطلاق النار عليه. حظر يدوم مئة عام على الأحاديث الأدبية المضجرة. ينبغي ترك الناس يصارعون الكتب بطريقتهم الخاصة، ويكتشفون بأنفسهم جوهر هذه الكتب. وأي شيء بخلاف ذلك لا يعد إلا ثرثرة خالصة، فما أن تبدأ في التعميم حتى تدخل إلى كون مختلف تمام الاختلاف عن الأدب". في رواية"مؤامرة على أميركا"، يتصوّر روث ما كان يمكن أن يحصل لو تحالفت الولاياتالمتحدة عام 1940 مع هتلر. يتخيّل أنّ فرانكلين روزفلت لا يحصل على الإذن، في حزيران يونيو 1940، للتقدّم إلى ولايةٍ رئاسيّةٍ ثالثة وأنّ تشارلز ليندبرغ، الطيّار والبطل الشعبيّ وأيضاً المُعادي المعروف للساميّة والمُؤيّد للنظام النازيّ، هو الذي يحصل على ترشيح الحزب الجمهوريّ ويفوز في النهاية بدعمٍ من التيّار الانعزالي الراغب في إبقاء الولاياتالمتحدة بعيدةً عن الحرب في أوروبا. فموضوع الرواية هو التأريخ المتخيَّل للسنة التي يُسارِع فيها الرئيس الجديد، فور وصوله إلى البيت الأبيض، لتوقيع معاهدة عدم اعتداء مع هتلر، ومن بعدها مع اليابان، مُدشِّناً بحججٍ واهية سياسة تمييزٍ تجاه الطائفة اليهوديّة. هذا، حتّى الوقت الذي يذهب فيه ليندبرغ ضحيّة حادث طائرة، فيعود روزفلت إلى المسرح السياسيّ ليستأنف التاريخ الذي نعرفه. الروايات الأولى لروث ركّزت على الجماعة اليهوديّة في ولاية نيو جيرسي، مسقط رأسه، من خلال تداخلٍ مدروس للحدود بين السيرة الذاتية والخيال القصصي. يفلح روث كثيراً في تصوير الحياة اليهودية من مختلف وجوهها. يدقق في السلوكيات والعادات والأوهام والمخاوف ويرسم لوحات تفصيلية للوجوه والأجسام والمهن والطباع ويغوص عميقاً في النفوس والرغبات والشهوات. يلاحق رغبة التعلق بالحياة والانغماس في المتع الحسية بعيداً عن مسطرة الروح والدين والأخلاق. ولكنه إذ يكتب عن اليهود فهو ينأى بنفسه عن أن يوسمَ أديباً يهودياً. إنه أديب وحسب. وفي هذا يقول: أدب يهودي، أدب نسائي، أدب زنجي، هذا هذر صحف وكليشيهات جامدة لنقاد عاطلين عن العمل. من يقرأ الروايات ويغوص في النص لا يأبه لهذه التصنيفات. تحفل نصوص روث بالجنس. الجنس في الروايات التي يكتبها يشكل ما يشبه حديقة خلفية يرتادها الأبطال جميعاً. لا يتعلق الأمر بممارسة عابرة ولا قطف للمتعة في ركن ما بل هو تلخيص للسلوك البشري في أكثف حالاته. الجنس هنا وجه للعيش وهو أيضاً بارومتر للأخلاق وعنوان للفضيلة ورداء للرذيلة. الكائن الإنساني يستطيع أن يفعل كل شيء وليس ثمة في أعماقه ما يردعه. ثوب النفاق الإجتماعي فقط هو الذي يخفي، إلى حين، نهمه الجارف للقبض على كل شيء من دون اعتبار المقاييس والتسميات. في نصوص روث يمكن للبطل أن يمارس البيدوفيليا أو النيكروفيليا. ثمة لوليتا في كل زاوية من زوايا أية مدينة. حين سمع روث من صحافي دانماركي أن كاتباً دانماركياُ شهيراً أصدر كتاباً يسرد فيه يوميات عيشه مع فتاة صغيرة هي ابنة مخدومه وأنه لهذ السبب تعرض للنبذ والاستهجان حتى اضطر إلى الرحيل عن الدانمارك رجاه روث أن يروي له الحكاية بالتفصيل. طلب إليه أن يجلب له الكتاب. هذا برأيه حدث يستحق الانتباه. إنه موضوع رواية جديدة. روايات روث ليست فانتازيا إذاً. إنها وثائق مبعثرة هنا وهناك في أزقة المدن وردهات المدارس ووراء جدران البيوت. الرصانة التي تتقطر من الفضاء ليست أكثر من طلاء هش. لم يكترث روث كثيراً بالخطاب السياسي لأي طرف من أطراف المعادلة السياسية سواء في الولاياتالمتحدة أو خارجها ونبذ على الدوام الروايات الرسمية للنص التاريخي بما في ذلك الرواية اليهودية عن اليهود. وربما لهذا نال سهام سخط من الاتجاهات كلها. إنه في نظر كثر كائن شيطاني لا يلتزم، بحد، في أي شيء. إنه فاضح وصادم وناقد ورافض للدين والأخلاق والقومية. في نظر بعضهم لايعدو فيليب روث أن يكون أكثر من فضيحة أميركية. كان فيليب روث يراقب كثيراً أقاربه وهم يعملون في صنع الساعات. كانت هذه المهنة تبهره وتشد جميع مداركه. مهنة تسحرك إذ تتعامل مع آلات في منتهى الدقة لتلاحق الزمن في شساعته. في كتابته يبدو روث وكأنه يقلد صانع الساعات. يكتب بدقة وتفصيل. يكتب بشكل جامد لا يأبه كثيراً لما يمكن أن تثيره كتابته من ردود فعل وسخط وهياج أخلاقي. إنه فنان مراقب للزمن يرسم ما يدور من حوله. من حوله تدور أشياء كثيرة، متناقضة وغريبة. الحياة والموت والرصانة والخفة والأخلاق والعهر والفضيلة والكذب. ثمة، قبل كل شيء، الموت الذي يسير بهدوء. هدوء الساعة الأبدية. في الكتابة يجهد فيليب روث أن يتغلب على الموت بالتحديق ملياً فيه. بالكتابة يؤجل الكاتب الموت بأن يتلاعب بالساعة. ليفعل ذلك كتب روث حتى الآن ما يقارب ثلاثين رواية.