إلى النساء السبع اللواتي يقمن فيها، تُهدي الشاعرة جمانة حداد مختاراتها الشعرية الجديدة"النمرة المخبوءة عند مسقط الكتفين"، الصادرة حديثاً ضمن احتفالات "الجزائر عاصمة الثقافة العربية للعام 2007"، لدى منشورات"الاختلاف"وپ"الدار العربية للعلوم". إنها مختارات شعرية من مجموعاتها:"عودة ليليت"2004،"يدان إلى هاوية"2000، و"دعوة إلى عشاء سري"1998، إضافة إلى بضع قصائد غير منشورة. واختارت حداد إدراجها من الأحدث الى الأقدم، كي"تستدرج"القارىء الى ماضيها الشعري بدلاً من أن تنطلق منه أساساً. منذ الوهلة الأولى، أي عبر"عودة ليليت"، يلتقط القارىء طرف الخيط الشعري لدى حداد، ويلمس نسيج قصائدها: نسيج يشف بقوة من تعرية الشعر في ذاته، وصولاً الى جوهره، خصوصاً الشعر في ما هو مستتر في علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المرأة بالحياة، وجنوح المرأة إلى الاستقلال الحرّ، وإلى معانقة ذاتها والتكامل فيها، بمعزل عن الرجل، وبمعزل عن كل سلطة قامعة، في مواضع كثيرة:"أنا المرأة المائدة وأنا المدعوون إليها". كان هدف الشاعرة أن تقيم علاقة ندية بين المرأة والرجل:"أنا ليليت المرأة الأولى، شريكة آدم في الخلق". تستلهم حداد من التراث الأسطوري الأنثوي ما يعينها في رسم تلك الصورة، أو نحتها بجرأة، قد تصدم القارىء لحسن حظّه، وتسرّب إليه نوعاً نادراً من الدهشة: دهشة أن الشاعرة تخلع كل ما يحجب الرؤية، تتعرّى من الهواجس والتابوات، لترتدي عتمة القاع، قاع البئر الشعرية، مؤكدة أن للشعر تلك المقدرة على أن يُلغّم الزيف وينسفه، كإنسان بدائي يكتشف الطبيعة من حوله بالتجريب. وهي منطقة محظورة، تطأ جمانة حداد ألغامها بلا اكتراث، من أجل أن تمنح قصائدها القدرة على الحفر تحت أرض البئر، وهذا ما يمنح تجربتها الشعرية صدقية، وجذوراً تستقي ماءها من تراث الأنثى الأولى، ليليت، المعروفة في الميثولوجيا على أنها المرأة الأصلية المخلوقة من طين، وقد وجدت في خضوعها للرجل مذلة، وفي الخنوع ضعفاً، فتمردت، فطُرِدت من الجنّة، وخلقت بدلاً منها حواء من ضلع آدم، لتكون أكثر طاعة، وانقياداً. ترتقي جمانة حداد بأنثاها سلّم التاريخ، لتعود إلى سيرة نساء بارزات، سجّلن حضوراً تراثياً، لا يزال يتردد صداه، مثل: سالومي، نفرتيتي، بلقيس، وكليوبترا... بأناشيدهن الصداحة في مواجهة سيطرة الرجل على جُلّ الأمور المصيرية، وانتزاعهن مكانةً أهّلتهن ليصبحن بنات ليليت، الثائرات ضد أعراف الذكورة، وتقاليده البالية في طمس أصواتهن الحرة. وهذا ما أرادت جمانة حداد أن تحققه عبر الحكاية أو الخرافة الأولى، بأن حرّرتها من مسحتها الأسطورية والتاريخية وجلبتها الى الحاضر، وجعلت منها قصيدة حديثة ينبوعية تطلع من بئر لا قعر لها، بعدما نزعت اعترافاً من الرجل، في صوره المتعددة العشيق، الأب، الإبن، الزوج، المعلّم، الأخ، الصديق، في مشهدها الشعري/ الدرامي. توحي القصيدة أن طبيعة الأنثى مهيأة لحيوات وأطوار تمر بها، تعيش فيها مع الرجل، في مراحل نموه، بدءاً بتكونه في رحمها، مروراً بطفولته، وشبابه، ونضجه، وإنتهاءً بشيخوخته. تلك الطبيعة لا ينافسها فيها أحد، لذا تلجأ إلى الحوار بين تلك الأوجه المتعددة من خلال سبعة رجال، في حين أنها إمرأة واحدة، تليق بكلِّ منهم على حدة. تلك الحوارية الشعرية تستمد إضاءتها من الرؤية المسرحية، المتعددة الأصوات، لتقف على رؤى كثيرة، يضمّنها الرجل في علاقته بالمرأة، ونظرته اليها، من دون أن يعترف جهراً بضرورتها له، وتغلغلها في روحه، مع وعيه أن نهمه لها جوع بلا شبع. تلك الكينونة التي انتهت إليها جمانة حداد في"عودة ليليت"2004، وألبستها تاج الأنثى الملكة على عرشها، كانت مهدت لها البدايات الأولى في"دعوة إلى عشاء سري"1998، حين تفتحت عيناها على ثمارها، وهي تنضج، لتختبر الجسد، والماء يتحسس مساراته الدفينة، يصعد في أوردتها. وفي ملذات الجنون الطائش، لا تفقد خصوصيتها، وإرادتها، لأنها إمرأة:"حرة بقهري، بهزيمتي". ذلك الوعي، الذي تحمله القصائد، يقودها إلى مرحلة أخرى من مراحل تجربتها الشعرية المتدفقة، في"يدان إلى هاوية"2000، حيث تنمو أعشاب الواقع بحلوه ومره، بقسوته وحنانه، بسرّه وعلنه، وتصبح العين على المحك، والشرارة على وشك الانفجار، وهو الخيار الذي اعتمدته الذات، في مواجهة العالم، إطلاق صرخة مدوية، من أجل التشبث بخصوصية تعي مصدرها، وتسعى الى امتلاكها بكل السبل، وإن اكتسبت عادات سيئة. ومع أنها لم ترتكب ما يكفي من الأخطاء، فهي إمرأة أنهكها البحث عن الشعراء، وأدركت أن:"أحلامها يدان إلى هاوية". تقودها أفعال الغنج والتدلل، والعزوف والارتماء، إلى مخيلة تلتهمها، فتصبح شيطان الغواية، من دون دراية من الآخر، ذلك الغريب الجالس أمامها، تتلو عليه وصاياها. ثمة في المختارات وحدة وتناغم واضحان، كأنها ثمار لون واحد في كل تدرجاته وفوارقه، وهو ما يشكل دليلاً أو مرشداً الى عالم حداد الشعري، الفاتح طريقه على حدة، والمحموم والمتساوق، منذ لحظة التفتّح الأولى والى الآن، مروراً بكل مراحل التجربة وفصول نضجها. أما اللافت في غالبية قصائد حداد غير المنشورة، فهاجس التوحد بالرجل، والنهل من بئر اللذة والنشوة بتمهل العارفين، المجرّبين، كأنها استخلصت من مراحل تجربتها أن للكيانين، المرأة والرجل، هويّة واحدة، أندروجينية، ولوناً ممتزجاً باللذة، وحياة مشتركة، هي ما يجب أن يؤول إليه التوجه في النهاية، وصولاً إلى الاكتمال والتحقق والتحرر:"كي إذا غلبتني الحياة أربح معك حياتي"، ما عدا"قصيدتي"، التي تبحث فيها عن ماهية شاعريتها، لونها الوجداني الأزرق، ثمرتها التي تأكل جسدها. أما"أغنية للميت"، قصيدة النهاية، فهي من قصائد مجموعتها الجديدة التي تصدر قريباً وعنوانها"مرايا العابرات في المنام"، التي تحدس فيها تجربتها منتحرات في العالم. هذه القصيدة البركانية تختتم المختارات وتشوّقنا الى جديد الشاعرة، اذ تبدو كأنها تتفجر من كل الينابيع الشعرية لديها، بما تحمل من تجريب ناضج، ومن بُعد داخلي، على مستوى الفكرة، والشكل، والصوت، والحركة، والإيقاع، وتكرار اللفظة تلو اللفظة، لإكسابها شجناً يهز الوتر، ويحييه، ويمنحها نغمة مدوية تليق بأن تصبح رفيقة الجسد المسجى على طرق الحياة:"نائم هو الميت: وسيستيقظ بعد قليل". فهل يصدق حدس نمرة الشعر الماكرة تلك؟ هل تنفجر قصائدها المفخّخة بأدرينالين الشعر والحرية والحب والشهوة، فتقيم"الميت"من سباته؟ تنظّم"المكتبة الوطنية"و"دار الاختلاف"في الجزائر أمسية شعرية للشاعرة جمانة حداد تليها حفلة توقيع لكتابيها"النمرة المخبوءة عند مسقط الكتفين"و"صحبة لصوص النار"، في 5 أيار مايو.